الخطاب الملكي الذي ألقاه العاهل المغربي محمد السادس، بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الخامسة من الولاية التشريعية الحادية عشرة يوم الجمعة الماضي الـ10 من أكتوبر الجاري بمقر البرلمان، أثار ردود فعل متباينة في الأوساط السياسية والإعلامية، بين من اعتبره مخيبًا للآمال بسبب غياب إجراءات عملية ملموسة، وعدم إعلان الملك محمد السادس قرارات أو توجيهات أكثر حدة؛ حول الملفات التي كانت مصدر مطالب مجتمعية رفعها حراك “جيل Z” من قبيل إصلاح التعليم، والصحة والأسعار ومحاسبة الفاسدين، وبين من رأى فيه خطابًا متوازنًا حمل رسائل واضحة، وتوجيهات استراتيجية ترسم ملامح المرحلة المقبلة.
هذا التباين في القراءات يعكس، في نهاية المطاف، حيوية النقاش العمومي حول مضامين الخطاب الملكي، وأهمية ما حمله من إشارات إلى التحديات والرهانات المطروحة أمام المغرب في المرحلة الراهنة.
رسائل للحكومة والأحزاب والبرلمان
سلوى البردعي، النائبة البرلمانية عن المجموعة النيابية للعدالة والتنمية أوضحت في تصريح لمنصة “هنَّ” أن “جميع المغاربة ترقبوا باهتمام كبير الخطاب الملكي بمناسبة افتتاح الدورة التشريعية، في سياق دقيق تميز بحراك شبابي لافت، عبر عن نفسه من خلال شعارات قوية طالبت بإسقاط الفساد، وإصلاح قطاعي الصحة والتعليم بالخصوص”.
وأضافت أن هذا الخطاب “جاء ليذكر بأن الإصلاح يكون من داخل المؤسسات الدستورية البرلمان، والحكومة، وكذا بمساهمة الأحزاب، والمجتمع المدني الذي حملهم مسؤولية التأطير، وهنا تكون الإشارة ضمنية أن المغرب دولة المؤسسات، ولا بد من احترامها، ولا بديل عنها في الإصلاح ومحاربة الفساد”.
البرلمانية البردعي أفادت أيضا أن الخطاب الملكي: “أحال إلى المشاريع التنموية الكبرى التي بنيت على رؤية استراتيجية بعيدة المدى، وعابرةٌ للحكومات، ولا يمكن تجاهل أهميتها دون إغفال القطاعات الاجتماعية وأهميتها”.
“وكل هذه الخيارات تسير بتوازن، ولا يمكن الاستغناء عن إحداها مع الحث على جدية العمل في ظل سنة انتخابية غالبا ما ينصب اهتمام النواب على الانتخابات، كما ذكر بضرورة الاهتمام بالعالم القروي والعمل على تقليص الفوارق المجالية”، تقول البرلمانية.
ومن جانبها، ترى النائبة البرلمانية نعيمة الفتحاوي في تصريح صحفي أن “الخطاب الملكي حث على استكمال الإصلاحات، وتعزيز الدبلوماسية البرلمانية، وتحفيز النواب على إنهاء ولايتهم بروح المسؤولية واليقظة، وفي مغزى أعمق يمكن أن نقول إنه دعوة للتعبئة الوطنية في سنة حاسمة سياسياً وتشريعياً”.
وقالت في هذا الصدد: “دعا الخطاب الملكي إلى استكمال الأوراش المفتوحة؛ خصوصا وأن هذه السنة هي الأخيرة في هذه الولاية، كما دعا إلى استكمال المخططات التشريعية وتنفيذ البرامج والمشاريع المفتوحة، وشدد على ضرورة التحلي باليقظة والالتزام، وعدم التراخي في أداء المهام”.
واعتبرت أن الخطاب، “حمَل نبرة تعبئة وطنية، حيث دعا الملك إلى العمل بروح المسؤولية والجدية، خاصة في ظل التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه البلاد. وأكد على أهمية التعاون بين البرلمان والدبلوماسية الرسمية، في إطار من التكامل لخدمة المصالح العليا للمملكة”.
لذلك، تضيف المتحدثة “فالخطاب ليس مجرد تقييم للمرحلة، بل دعوة صريحة إلى تكثيف الجهود في سنة حاسمة قبل الانتخابات المقبلة. وأن نضمن ألا تكون السنة الأخيرة سنة فراغ أو انتظار، بل سنة إنجاز وتشريع؛ خصوصا وأن الإصلاحات الكبرى التي انطلقت في السنوات الماضية يجب أن تُستكمل، ولا تُترك معلّقة بسبب نهاية الولاية”.
وزادت قائلة: “الخطاب جاء في لحظة دقيقة من عمر هذه الولاية التشريعية وفي سياق دقيق؛ حيث أن هناك تراكم لأوراش إصلاحية كبرى لها امتداد الى الحكومات السابقة؛ من بينها إصلاح المنظومة الصحية، الحماية الاجتماعية، الاستثمار، التشغيل والتعليم”.
وأشارت إلى أن “هناك تزايد للتوترات الاجتماعية؛ أبرزها الإضرابات القطاعية، خاصة في الصحة والتعليم، مما يضع البرلمان أمام اختبار حقيقي في الاستجابة التشريعية”.
وترى أن اقتراب الاستحقاقات الانتخابية؛ “يجعل الخطاب بمثابة تذكير بأن الأداء البرلماني سيُحاسب عليه قريبًا من طرف المواطنين. ومن هنا يمكن القول الخطاب ليس بروتوكوليًا، بل هو تدخل ملكي لتوجيه البوصلة نحو الإنجاز بدل الانتظار”.
وتعتبر أن الخطاب حمل رسائل غير مباشرة موجهة لعدة أطراف؛ “الأولى للبرلمانيين بأن لا مجال للتراخي أو التذرع بنهاية الولاية. وأن السنة الأخيرة يجب أن تكون سنة حصاد تشريعي، لا سنة تصفية حسابات أو حملات انتخابية مبكرة ودعاهم الى تسريع وتيرة المصادقة على مشاريع القوانين، خاصة تلك المرتبطة بالحماية الاجتماعية، الاستثمار، والرقمنة”.
والثانية كانت للأحزاب السياسية “عبر دعوتها إلى ضرورة تفعيل الدبلوماسية الحزبية والبرلمانية، خاصة في الدفاع عن القضايا الوطنية في المحافل الدولية”.
والثالثة، وفق ذات المتحدثة، كانت للحكومة “بدعوة غير مباشرة إلى التنسيق الفعّال مع البرلمان لإنهاء الأوراش المفتوحة وتسريع وتيرة الإنجاز خاصة في المجالات الاجتماعية وتوجيه البوصلة للفئات الهشة، القروية والجبل حتى يصلها نصيبها من التنمية في إطار تحقيق عدالة مجالية”.
من ثقافة الخطاب إلى ثقافة النتائج في مغرب الرقمنة
عائشة العلوي، أستاذة جامعية خبيرة اقتصادية، وفي تعليق على مضامين الخطاب الملكي أكدت لمنصة “هنَّ” على أن “الخطاب الملكي أكد على ضرورة تعزيز العلاقة التفاعلية بين المؤسستين التشريعية والتنفيذية، داعيًا إلى برلمان فعّال، منتج للقوانين، ومراقب جاد للسياسات العمومية، وإلى إرساء ثقافة سياسية جديدة ترتكز على النجاعة والنتائج بدل الخطاب المناسباتي والشعارات العابرة”
“ويُبرز هذا التوجيه أن المغرب قطع أشواطًا مهمة في ترسيخ دولة المؤسسات، ما يستدعي من الجميع التحلي بالمسؤولية والانخراط الفعّال لتقويتها وتعزيز مكانتها”، توضح العلوي.
ومن الناحية الاقتصادية والاجتماعية، تضيف الأستاذة الجامعية أن “الملك دعا إلى الانتقال من مركزية التنمية إلى لا مركزيتها، ومن السياسات القطاعية إلى برامج ترابية مندمجة تُفعّل مبادئ الجهوية المتقدمة، وفق رؤية تنموية ترتكز على المحلي”
واعتبرت إنها رؤية تقوم على منطق “رابح – رابح” بين القرى والمدن، وترى في “التنمية المحلية المرآة الصادقة” التي تعكس مدى تقدم “المغرب الصاعد والمتضامن”.
وأضافت:” كما أن الخطاب حمل بعدًا قيميًا واستشرافيًا واضحًا؛ فالمفهوم الملكي للمغري الصاعد والمتضامن؛ يُعبّر عن إرادة في بناء نموذج وطني يقوم على العدالة الاجتماعية والمجالية، وعلى التوازن بين الطموح الاقتصادي والإنصاف الاجتماعي”.
“وهي رسالة تؤكد أن التنمية ليست مجرد مشاريع وأرقام، بل قيم وممارسات وأسلوب في الحكم الرشيد. لذلك، وجب أن تبنى السياسات على تحقيق الكرامة للجميع في الجبال والواحات والقرى والمدن، في إطار توزيع عادل ومتوازن للخدمات الاقتصادية والاجتماعية”، تقول العلوي.
غير أن التحدي الأكبر، وفق العلوي، “كما يُفهم من روح الخطاب، يكمن في الترجمة الميدانية لهذه الرؤية. فالإرادة السياسية متوفرة، لكن نجاح البناء التنموي يقتضي تفعيل البرامج والسياسات المحلية بشكل متوازن، وضمان عدالة في توزيع الاستثمارات بين الجهات، حتى تستفيد الساكنة المحلية أولاً من المشاريع الكبرى المقامة على أراضيها”.
وتشير الخبيرة الاقتصادية، “هنا تبرز الرقمنة كأحد المفاتيح الأساسية للتحول التنموي. فرغم أن الخطاب لم يتناولها بشكل مباشر، إلا أنه أشار بوضوح إلى ضرورة؛ التحول في العقليات وطرق العمل؛ وإلى استثمار أمثل للتكنولوجيا الرقمية كوسيلة لترسيخ ثقافة النتائج. الرقمنة هنا ليست مجرد إدخال للتكنولوجيا في الإدارة، بل هي أسلوب جديد للحكامة والتنمية، لأنها تمكّن من تتبّع الأداء، وقياس الأثر، وتقييم المشاريع بموضوعية وشفافية”.
وبالنسبة إلى “جيل Z”. ترى عائشة العلوي أن “هذا الجيل الذي وُلد في قلب الثورة الصناعية الرابعة، ويعيش تحولات الاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي، فإن الخطاب الملكي يلامس تطلعاته بشكل غير مباشر”.
فهذا الجيل “يبحث عن مؤسسات أكثر شفافية وفعالية، عن سياسات عمومية قائمة على البيانات والنتائج لا على الوعود، عن عدالة رقمية تتيح ولوجًا متكافئًا للفرص، وعن مشاركة حقيقية في بناء مغرب رقمي متوازن ومستدام”.
وشددت على أن “دمج الرقمنة في السياسات العمومية وتحويلها إلى أداة لتحقيق العدالة الاجتماعية والمجالية يمثل اليوم جوهر مطالب جيل Z المغربي، الذي يرى في التكنولوجيا وسيلة للتحرر من البيروقراطية، وتقريب القرار من المواطن، وتسريع التغيير الإيجابي في مختلف المجالات، بما فيها المجال السياسي”.
وخلصت المتحدثة، إلى أنه “هذا المعنى، فإن الخطاب الملكي لا يُعدّ مجرد توجيه سياسي للمؤسسات، بل هو أيضًا رسالة استراتيجية إلى جيل المستقبل؛ جيل ينتظر أن يرى نتائج ملموسة على أرض الواقع، وأن يشارك بذكائه الرقمي وروحه الإبداعية في بناء ‘المغرب الصاعد والمتضامن’ الذي يتسع للجميع. من ثم، فإن التأطير السياسي والمدني يُعدّ البوابة الأساسية لبناء مغرب عادل، قوي، وسيادي، قادر على الدفاع عن قضاياه إقليميًا وقاريًا ودوليًا”.
الخطاب لم يلتقط إشارات الحراك ولم يتطرق لعمقِ المشكل
في تعليقها على مضمون الخطاب الملكي في افتتاح البرلمان، قالت الناشطة الحقوقية عفاف برناني في تصريح لمنصة “هنّ” أنه “جاء لحظةً محمَّلة بالانتظارات، تزامنًا مع تصاعد مطالب حركة جيل زيد التي أعادت تعريف الفعل السياسي انطلاقًا من الشارع، لا من داخل المؤسسات”.
وأضافت برناني أنّ “هذا الجيل الذي رفع مطالبه مباشرة إلى الملك، لم يكن يبحث عن مخاطَب جديد، بل كان يؤكد غياب وسائط حقيقية بين الدولة والمجتمع، وأنّ القنوات التقليدية من أحزابٍ ونقاباتٍ ومجالس، فقدت كل شرعيةٍ تمثيلية أو قدرةٍ على الوساطة”.
وأوضحت أنّه “رغم أنّ الخطاب جاء مطعَّمًا بمفردات العدالة الاجتماعية والتنمية الترابية، فإنه التزم صمتًا لافتًا تجاه هذا الزخم الشبابي، وكأن الحراك لم يكن جزءًا من المشهد الوطني”.
و”في لغة الحقوق، لا يُعدّ هذا التجاهل تفصيلاً، بل هو مؤشّر على استمرار القطيعة بين السلطة والمجتمع، وعلى أزمةٍ عميقة في مفهوم المشاركة السياسية”، تضيف برناني لـ”هنَّ”.
وخلصت برناني إلى أن الشباب “كانوا ينتظرون خطابًا يُعيد الثقة للجميع ويمنح الاعتراف، لكنهم وجدوا أنفسهم أمام خطابٍ لا يحمل جديدًا، بل يكرّر الأطروحات السابقة نفسها حول التنمية، من دون التطرّق إلى عمق المشكل؛ المتمثل في أزمة الثقة، وهشاشة التمثيل، وغياب العدالة في مختلف القطاعات”.
خطاب موجه للمشرّعين ويعكس تحولًا في لغة الدولة
قالت الكاتبة والشاعرة المغربية نعيمة عبدلاوي إن خطاب الملك محمد السادس الأخير “كان موجهًا أساسًا إلى المشرّعين وليس إلى الشعب المغربي، إذ لم تبدأ بصيغة النداء المعتادة ‘شعبي العزيز’، وهو ما يعكس تحولًا في طبيعة الخطاب نحو بعدٍ مؤسساتي وتشريعي أكثر”.
وأضافت عبدلاوي، في تدوينة نشرها على صفحتها في “فيسبوك”، أن خطابات الملك في السنوات الثلاث الأخيرة تكشف مسارًا متدرجًا في اللغة والمقاصد: “ففي كلمة 2023، التي جاءت في أعقاب زلزال الحوز وبحضور ممثلي البنك الدولي وصندوق النقد، خُصص القسم الأكبر منها لمشاريع إعادة الإعمار وإصلاح مدونة الأسرة، وهي ملفاتٌ ترتبط بشروط تمويل دولية، مرتبطة بتأهيل المغرب لاحتضان كأس العالم”.
وترى عبدلاوي أن كلمة 2024 “ركزت بالأساس على قضية الصحراء المغربية، التي تظل بالنسبة للنظام الرسمي القضية المركزية، ليس فقط سياسيًا، بل باعتبارها مفتاحًا لتوازناتٍ دولية واقتصادية في ظل الصراع الأميركي–الصيني على الموارد الإفريقية”، مذكّرة بأن المغرب “يمتلك أحد أكبر احتياطات الفوسفاط في العالم، ما يجعله في قلب الصراع على غذاء المستقبل وطاقته”.
وقالت الكاتبة المقيمة في بلجيكا، إن خطاب 2025 “اتسم بلغةٍ جديدة تميل إلى البراغماتية والفعالية، تعكس مفردات جيل Z ومطالبه؛ كالدعوة إلى تغيير العقليات، وثقافة النتائج، والتفعيل بدل البلورة”.
وأشارت إلى أن هذا الخطاب “حمل دعوةً صريحة للمشرّعين إلى التحلي باليقظة والالتزام للدفاع عن قضايا المواطنين، وهي سابقة في القاموس الملكي”.
وأضافت أن استعمال الملك لعبارات مثل “الإصلاح متجاوز لعمر حكومة وبرلمان، يشير إلى أن المغرب مقبل على مرحلة تعديل دستوري قريب، خاصة إذا تم إخراج ملف الصحراء من اللجنة الرابعة للأمم المتحدة وإقرار مشروع الحكم الذاتي”. معتبرة أن “الحراك المجتمعي المغربي، وجيل Z خصوصًا، سيكونان فاعلين أساسيين في رسم هذا التحول”.
وأكدت عبدلاوي أن “الاحتجاجات الراهنة، رغم حدّتها، تمثل أيضًا فرصةً للملكية في الداخل والخارج؛ داخليًا لإعادة التوازن بين مؤسسات الدولة والشعب، وخارجيًا كورقة ضغط لمواجهة الابتزاز الذي تمارسه القوى الاستعمارية في عقود استثمار الجنوب”.
وختمت الشاعرة بقولها، “ها حنا غاديين درجة بدرجة، ما نحرقوش المراحل… أنا متفائلة، وأرى تغييرًا حقيقيًا يلوح في الأفق، من وعي الشعب لا من فوقه، فجيل Z اليوم يختصر أحلام المغاربة في وطنٍ صاعدٍ ومتضامنٍ وعادل”.


















