تُكابد العديد من النساء المزارعات والفلاحات في تونس الاستغلال الاقتصادي لهنّ والتمييز القائم على النوع الاجتماعي من خلال فجوة الأجور وعدم المساواة بين الجنسين، يُنقلن في سيارات الموت من أجل مورد رزق لا يُلبّي احتياجاتهن الصحيّة واليومية، يتقاضين أجورا زهيدة على عمل شاقّ ومهدّد جرّاء التغيرات المناخية. كلّ هذه العوامل القاسية زد عليها التمييز المجحف بينهن وبين الرجال في جميع القطاعات الفلاحية والزراعية، ولا يخلو قطاع التمور من هذه القاعدة العامّة التي تتقاضى فيها النساء نصف الأجر الذي يتقاضاه الرجال.
في هذا المقال، رافقنا حكاية زهرة (إسم مستعار) المزارعة التونسية التي تنتظر كلّ سنة موسم التمور حتى تتمكّن تعويض الخصاصة المادية التي تعيشها بقية السنة مع انقضاء الموسم. هي شابّة تبلغ من العمر 32 سنة، أصيلة معتمدية سوق الأحد التابعة لولاية قبلي الواقعة بالجنوب التونسي.
زهرة… تحلم بـ”زهاز العروسة”
تُقدّر فجوة الأجور بين الجنسين بنسبة 20 في المائة على مستوى العالم حسب منظمّة الأمم المتحدّة أين “تتقاضى النساء أجورًا أقل من الرجال. ولا تزال المساواة بين الجنسين وتمكين النساء والفتيات يتراجعان بسبب استمرار علاقات القوة التاريخية والهيكلية غير المتكافئة بين النساء والرجال، والفقر وعدم المساواة والحرمان في الوصول إلى الموارد والفرص التي تحدّ من قدرات النساء والفتيات. وكان التقدّم في تضييق هذه الفجوة بطيئًا. في حين تم تأييد المساواة في الأجور بين الرجال والنساء على نطاق واسع، إلاّ أنّ تطبيقها في الممارسة العملية كان صعبًا.”
وفي تونس، لا تخلو قصص الفلاحات والمزارعات من الإحساس بالقهر والعجز كلّما فتحن سيرة تعريفة الرجال وتعريفة النساء في جميع القطاعات. زهرة، الشابّة التونسية تُحدّثنا عن هذه الفجوة بطريقة سلسة وبسيطة، فدافعها الحقيقي وراء هذه القصّة هو التحدّث عن حلمها في توفير “زهازها” (مستلزمات العروس).
“أعمل في موسم جني التمور منذ عشر سنوات تقريبا، تنتهي فرصي حالما ينتهي موسم الفرز، كنّا في السابق نتقاضى خمسة عشر دينارا، ثمّ سبعة عشر والآن أتقاضى عشرون دينارا في اليوم (ما يعادل 6 أورو). يبدأ عملي في الثامنة صباحا وينتهي عند الخامسة مساءا.”
تسترسل زهرة قصّتها بعيون مشحونة بالخوف والألم والوهن، ” يتقاضى الرجال ضعف ما تتقاضاه النساء، وكلّما سألنا عن الأسباب يقولون لنا بأنّهم يقومون بجهد أكبر، أيّ جهد هذا؟؟ نحن أيضا نحمل الصناديق عديد المرّات في اليوم ونبقى متفرّغات للفرز حتى تنقسم ظهورنا. لكن ماذا نفعل ما في اليد حيلة… إن لم نعمل فسنبقى مطوّلا في البيت.
لا تُعاني النساء المزارعات أو الفلاّحات في تونس من فجوة الأجور فحسب، بل انعدام التغطية الصحيّة والاجتماعية هو عائق كبير يُهدّد أمانهن وسلامتهن، فالنساء الشابّات على غرار زهرة يُفكّرن في توفير مستلزمات العروس أو في تحسين وضعيتهن الاقتصادية، لكنّ النساء الأكبر سنّا يُواجهن أرقا يوميا يتعلّق بسلامتهن الصحيّة وبخوف دائم من المرض المفاجئ الذي سيُقعدهن في المنزل أو سيُهدّد استقرارهن ويُجبرهن على التعامل مع المنظومة الصحيّة العمومية دون دخل قارّ.
استغلال النساء “وقت الحاجة”
يستلزم موسم جني التمور يد عاملة مختصّة حسب الباحثة والناشطة البيئية في مجموعة العمل من أجل السيادة الغذائية ليلى الرياحي، ولذلك فهو عمل سنوي وليس موسمي، يتمثّل في استقامة أو تعديل النخيل redressement des palmes وفي عدّة تقنيات أخرى.
يكون دور النساء في هذا العمل السنوي موسميّا فقط لأنّه يتمثّل في عملية جمع التمور المتساقطة من النخل، ثمّ فرز “العراجن” وفرز الحجم والنوع في مصانع التصدير. ورغم أهميّة العنصر النسائي في مصانع التصدير التي يفوق عددها الثلاثين مصنعا (في ولاية قبلي) إلاّ أنّ أجرهنّ هو الأضعف مهما كنّ تلميذات أو طالبات أو خبيرات في المجال أو فلاّحات.
يُحدّد أجر اليد العاملة ككلّ حسب الكفاءة والتقنيات التي تصاحبها مثل أصحاب الشاحنات أو سكّان الأماكن البعيدة أو الخبرة، لكن هذا لا ينفي الفرق الشاسع بين ما تتقاضاه النساء وما يتقاضاه الرجال الذي يكون واضحا في تعريفة عمّال وعاملات الفرز، أو في تعريفة عمّال الفرز والمشرفة على النساء والتي تُعتبر مكانتها المهنية أعلى منهم، حسب محدّثتنا ذاتها.
تتجلّى هذه الفجوة أكثر عندما تُستغّل اليد العاملة الفلاحية النسائية في موسم الجني والمتعطّشة للعمل سواء في المصانع أو خارجها ويتمّ التخلّي عنها في بقية السنة، وهذا الحال الذي لا يمرّ به الرجال باعتبارهم يعملون في عدّة أعمال أخرى متعلّقة بالنخيل و”تذكيره” وليست مرتبطة بموسم الجني.
الأرض من حقّ الرجل
هذا الاستغلال النسائي المعمّم ليس وليد المواسم، هو استغلال تاريخي لليد العاملة الفلاحية النسائية دون نفاذ للأرض ودون أحقيّة لوراثة إشرافها أواستغلالها، فالأرض من حقّ الرجل والفلاحة هو مجال ذكوري بامتياز عندما يتعلّق الأمر بالتمتّع بالموارد أو التملّك أو الإشراف لكنّه مجال نسائي في العمل الدؤوب والزراعة والجني وتربية الماشية.
لا تنفذ النساء إلى الأرض إلاّ وهنّ مستغلاّت لكن الرجال ينفذن إليها مالكين، زد على ذلك ما يُهدّد عمل النساء في المواسم من التغيّرات المناخية، فالتمور مثلا تستهلك كمية كبيرة من الموارد المائية ما يؤثّر على أحقيّة الأجيال القادمة في النفاذ للمياه فيما بعد، وحسب تقرير صدر للمرصد التونسي للمياه سنة 2021 فإنّ “منطقة قبلي المعروفة أيضًا باسم “واحة نفزاوة”، تُمثّل 60% من المناطق الواحيّة. ويُعدّ القطاع الفلاحي فيها، الذي يضمّ 34.000 منتجا للتمور، ثاني أكبر مزوّد لفرص العمل بعد قطاع الخدمات، حيث استقطب 34,4% من السكان الناشطين اقتصاديا في المنطقة سنة 2018، أي ما يعادل 16.023 عاملا وعاملة في القطاع الفلاحي .
ومع ذلك، فإنّ وضع الموارد المائية في المنطقة لا يتماشى مع الإنجازات الفلاحية التي يتمّ الاحتفاء بها كل عام. وفي هذا السياق نبّهت المندوبية الجهوية للتنمية الفلاحية بقبلي من أنّ الوضع الحالي يمسّ من حق الأجيال القادمة في النفاذ للمياه. حيث تُعتبر قبلي أكثر الجهات افراطا في استغلال مائدتها المائية الجوفية العميقة بالرغم من محدوديتها الكبيرة.”
كلّ هذه العوامل المذكورة، تؤثّر سلبا على أمان النساء وتزيد من زعزعة استقرارهن، عدم المساواة بين الجنسين والتمييز القائم على النوع الاجتماعي الذي يتجلّى في مظاهر وأشكال عديدة لا يزيدهن سوى ضعفا وهشاشة كما يُقلّل من فرصهن في الاستقلال الاقتصادي والمادي ومواجهة منظومة أبوية وذكورية بامتياز.