قطعت جميلة، عاملة زراعية، أكثر من 300 كلم قادمة من ولاية سيدي بوزيدي إلى العاصمة تونس، هذه السيدة لم تأتِ لتُخبر الناس عن حكاية شخصية فقط، بل لتحكي وجعًا مشتركًا. لتتحدث عن رفيقتها التي فقدتها في حادث شاحنة، والتي ماتت على الفور، وخلّفت طفلين صغيرين.
في حديثها لـ”هنَّ” تتذكر جميلة تفاصيل الحادثة بمرارة، وتكشف عن قسوة الظروف التي يعملن فيها: “أستيقظ يوميًا في الساعة الرابعة فجرًا، في ظلام دامس وبرد قارس، أتهيأ ليوم طويل وشاق في العمل… نصعد إلى شاحنات بلا مقاعد ولا أدنى شروط السلامة، نقضي الطريق واقفات لمسافات طويلة، معرضات للسقوط في أي لحظة”.
تتنهد المرإة قليلاً وتضيف: “نصل إلى المزرعة فنقضي ساعات العمل في جهد متواصل، ثم نعود في وقت متأخر من اليوم، منهكات، لنُمنح في النهاية أجرًا زهيدًا لا يتجاوز عشرة دنانير تونسية، (حوالي أربعة دولارات)”.
ما تقوله جميلة، تؤكده معطيات المنظمات غير الحكومية، فحسب دراسة ميدانية صادرة عن المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فإن 98 بالمائة من النساء العاملات في القطاع الفلاحي يتقاضين أجورًا يومية لا تتجاوز 20 دينارًا، دون احتساب الاقتطاعات التي يفرضها وسطاء النقل.
جميلة هي واحدة من مئات العاملات الزراعيات المنحدرات من المناطق البعيدة والمنسية، وصلن إلى تونس العاصمة لإسماع أصواتهنّ والمطالبة بحقوقهنّ من خلال مشاركتهنّ في “المؤتمر الثاني لحراك أصوات عاملات الفلاحة” الذي تنظمه “جمعية أصوات نساء”.
حين تمعن النظر في ملامحهنّ ترى نساء شامخات كأشجار الزيتون التي تربّين في ظلها، يحملن في وجوههن ملامح الأرض، وفي قلوبهن عزيمة من لم ينكسر رغم تعب السنين.
بعضهن تطأ أقدامهن العاصمة للمرة الأولى، مدينة لم يعرفنها إلا من خلف شاشات التلفاز أو من روايات الآخرين؛ لكنهن اليوم جئن متحدات، بعدما قطعن مسافات طويلة بالحافلات، بأجساد أرهقها العمل، وبأصوات ما تزال تصرخ رغم الإنهاك، من أجل حقوقهن الأساسية، الحق في الكرامة الإنسانية، في العلاج اللائق، في وسائل نقل تحفظ حياتهن، وفي الاعتراف بهن كمواطنات كاملات الحقوق، لا مجرد أيادٍ عاملة تُنسى في عمق الحقول.
مسيرة تخلد ذاكرة الضحايا
من قمم الجبال الوعرة ودروبها النائية، وفدت العاملات الفلاحات يوم الأربعاء 7 ماي لتونس للمشاركة في مسيرة جابت شوارع العاصمة للمطالبة بحقوقهنّ رافعات شعارات تطالب بالكرامة والعلاج ووسائل نقل آمنة.
زيّنت المسيرة أوشحتهن المميزة، تلك “محرمة الرأس” المزينة بالورد، التي لم تكن يومًا مجرد زينة، بل أصبحت رمزًا لمقاومتهن وكفاحهنّ الطويل. محرمة الرأس ذاتها التي تحوّلت في لحظة مأساوية إلى كفن يلف أجساد بعضهن، ممن فقدن حياتهن في حوادث نقل فلاحي مروعة. واليوم، تتردد أسماؤهن في ذاكرة زميلاتهن، ويُستحضر حضورهن الغائب بكثير من الحزن والأسى، فمنذ سنة 2015 تم تسجيل 84 حادث في قطاع النقل الفلاحي، حيث خلفت 60 حالة وفاة وأكثر من 500 إصابة حسب “المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية”.
هؤلاء العاملات الفلاحات، اللاتي ربما لم تطأ أقدامهن أبواب المدارس ولم يقرأن سطور الدستور والقانون، يمتلكن وعيًا فطريًا بحقوقهن المشروعة، يعرفن بالفطرة ما يستحقنه من احترام ورعاية، ويدركن تمامًا الظلم الذي يلحق بهن في مناطقهن البعيدة والمعزولة، البعيدة عن مرأى ومسمع الحكومة والمسؤولين.
حضورهن اليوم في العاصمة واصطفافهن جنبًا إلى جنب سيرًا على الأقدام من شارع الحبيب بورقيبة إلى ساحة حقوق الإنسان، وصولاً إلى قصر المؤتمرات بمحمد الخامس، وهن رافعات شعارات: “حق في الصحة واجب” “عدالة اجتماعية” الحق في التنقل الآمن” “مناش مسلمين في حقوقنا شادين”.
خلال افتتاح المؤتمر قام الحاضرون من مجتمع مدني، والعاملات الفلاحات بوقفة صمت ترحمًا على أرواح شهيدات “الكميونة”، الحوادث المأساوية المتكررة التي أودت بحياة عدد منهنّ. وقد عمدت المشاركات إلى استعراض رمزي عبر “جثث مزيفة”، في لفتة هدفت إلى تخليد ذكراهن وتسليط الضوء على التضحيات الجسام التي قدمنها.
وفي ذات السياق تم عرض لأبرز المحطات التاريخية والنضالية في حراك العاملات الفلاحات تولت تقديمها عاملة فلاحية والمديرة التنفيذية سارة بن سعيد. ليتم فيما بعد تقديم عرض مسرحي من أداء العاملات الفلاحات أشرفت عليه الممثلة التونسية “هالة عياد”، وقد شكل هذا العرض مساحة فنية فريدة من نوعها، استطعن من خلالها العاملات تجسيد معاناتهن اليومية في الحقول، والكشف عن واقع التمييز الصارخ في الأجور الذي يتعرضن له. وقد نقلت المشاهد المؤثرة عمق هذه المعاناة وتأثيرها على حياتهن إلى جمهور الحاضرين.







“نطالب بحقوقنا كأي مواطن”
وتطالب العاملات الفلاحات بإلحاح بحقوقهن الأساسية، التي يعتبرنها استحقاقات مشروعة تضمن لهن حياة كريمة تصون كرامتهن، وعلى رأس هذه المطالب:
توفير النقل الآمن واللائق، إذ تعاني العاملات الأمرين في تنقلهن اليومي إلى الحقول، حيث أنهن يوميا يراهنّ على حياتهن؛ فهن يضطررن إلى ركوب وسائل نقل غير آمنة ومكتظة، غالبًا ما تكون شاحنات مكشوفة أو حافلات متهالكة، مما يعرض حياتهن للخطر ويجعلهن عرضة للحوادث والإصابات، خاصة في الطرق الوعرة والبعيدة.
المطلب الثاني مرتبط بالحق في التغطية الصحية الشاملة والعلاج، حيث أن ظروف عمل العاملات الزراعيات شاقةٌ في الحقول، تحت أشعة الشمس الحارقة وفي مختلف الظروف الجوية القاسية، تجعلهن عرضة للعديد من الأمراض والإصابات المزمنة. وبسبب غياب التغطية الصحية يحرمن من الحصول على الرعاية الطبية اللازمة في الوقت المناسب، ويتركنّ عرضة للمعاناة وتدهور حالتهن الصحية، مما يؤثر سلبًا على قدرتهنّ على العمل وإعالة أسرهن.
أما المطلب الثالث فيتعلق بتوفير منحة تقاعد تضمن لهن شيخوخة كريمة. فبعد سنوات طويلة من العمل المضني في المزارع، غالبًا ما يجدن أنفسهن بلا أي دخل أو ضمان اجتماعي في سن التقاعد، مما يجعلهن عرضة للفقر والعوز على إن توفير منحة تقاعد عادلة هو اعتراف بجهودهنّ وتضحياتهنّ طوال سنوات عملهن، وضمان لحياة كريمة لهن.
أليات عالقة وقوانين متعثرة
على الرغم من صدور المرسوم عدد 51 لسنة 2019 المتعلق بإحداث صنف نقل للعاملات والعملة بالقطاع الفلاحي، والذي صدر بهدف تأمين نقل العاملات الفلاحات، إلا أن أليات تنفيذه لا تزال عالقة ومتعثرة لم يطبق، ولم يقع تأمين نقل العاملات إلى اليوم. فالعاملات ما زلن يركبن “شاحنات الموت”، ومازلن يراهن على حياتهن يوميا في سبيل كسب وتأمين قوت عائلاتهن.
ورغم ذلك يأتي هذا الحراك المدعوم بمنظمات المجتمع المدني ليؤكد على الإرادة والعزيمة الصلبة للعاملات الفلاحات في تحقيق التغيير المنشود وانتزاع حقوقهن والاعتراف بهنّ كمواطنات تونسيات كاملات الحقوق، مسلطاتٍ الضوء على قضاياهنّ الملحة وضرورة تضافر الجهود لتحسين ظروف عملهن وحياتهن.