تقف مايسة حواس، ذات الثلاثة والعشرين ربيعًا، وراء جداريات عدة في شارع كريم بلقاسم، المسمى سابقًا بـ”تلملي”، حيث تتموقع مدرستها، فهي طالبة في “المدرسة العليا للفنون الجميلة” بالجزائر العاصمة.
فن الشارع ليس بالأمر الجديد في الجزائر، فالكثير من الفنانين تركوا بصمتهم فوق جدران المدينة، ولكن النادر في هذا المجال هو أن تكون أصابع امرأة وراء إبداع هذه الجداريات.
“صحيح أن الرجال يمثلون الأغلبية في فن الشارع، إلا أن مساحة المرأة في توسع. ألاحظ انخراط الكثير من الفتيات والشابات، تقول مايسة في تصريح لـ”هنَّ”.
“الكثيرات يتجرأن على التعبير عن أنفسهن في هذا المجال، وأنا كفنانة أشجعهنّ على المواصلة والتطور”، تقول الفنانة الشابة المعروفة باسم “دست” (DUST).
ورغم الصعوبات التي قد تواجهها الفنانة عند انخراطها في فن الشارع، إلا أن مايسة تتحدث عن ردود فعل جميلة، وهي ردود فعل “غالبًا ما تكون إيجابية، خاصة من طرف المارة،الذين لم تكن لي أي تجربة سيئة معهم”.
جداريات مايسة تدخل ضمن مبادرات عديدة لاسترجاع المرأة لمكانتها في المساحات العامة، والتي أصبحت تتقهقر على الرغم من دورها المحوري في محطات حاسمة من تاريخ البلاد. فبسبب عوامل عدة تراجعت مكانة المرأة في المجال العام وبالتالي خفت حضورها في الفضاء العام بالجزائر.
“ساهمت النساء الجزائريات بشكل كامل في النضال ضد الاستعمار، فقد حملن السلاح، وشكلن مخابئ لإخفاء المجاهدين، كما نقلن المال داخل وخارج الوطن. وعند استقلال الجزائر في 1962 كانت الجزائريات مواطنات كاملات الحقوق، لكن في 1984 جاء قانون الأسرة ليعيد مناقشة دور النساء في المجتمع مع تعزيز الفكر الأبوي”، تقول عالمة الاجتماع خديجة بوسعيد في تصريح لمنصة “هنَّ”.
الدكتورة في السوسيولوجيا الحضرية والباحثة في “مركز البحث المطبق من أجل التنمية”، تضيف أن “الجزائريات لم يتوقفن عن النضال لاسترجاع مكانتهنّ في الفضاء العام حتى خلال العشرية السوداء من تسعينيات القرن الماضي”.
“خلال هذه الفترة، كان هناك اختراق للفضاء العام من قبل النساء، خاصة من خلال مظاهرات النضال ضد الإرهاب وأيضًا الإسلاموية في الجزائر” توضح بوسعيد.
امتدّت هذه المثابرات لعقود عدة، فمنذ 1984، مرورًا بالعشرية السوداء في التسعينات، ثم في الحراك الشعبي سنة 2019؛ تواصل نضال النساء الجزائريات لاسترجاع مكانتهن في الفضاء العام تواصل.
وتجسدت مكانة وقوة نضال المرأة الجزائرية في مظاهرات الحراك الذي أدى في النهاية إلى إسقاط الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة بعد حكم دام 20 عامًا، فـ”خلال الحراك كان هناك ما يسمى بإعادة الاستيلاء على الفضاء العام من قبل النساء والرجال على حد سواء، وكانت النساء متواجدات بشكل كبير، تنوعهنّ وحضورهنّ جعل الجميع يدرك أنهن يطالبن بالاعتراف بهن كفاعلات كاملات في التحولات التي تحدث في المجتمع”، تضيف السوسيولوجية خديجة بوسعيد.
تكتيكات الاستيلاء على الفضاء العام
تمثلت آخر مبادرة في هذا المنوال هي افتتاح مقهى مخصص للنساء فقط في تيزي وزو بمنطقة القبائل. وأسالت هذه المبادرة الكثير من الحبر، على الرغم من أنها ليست الأولى من نوعها في البلاد.
صور النساء باللباس القبائلي (الزي التقليدي للمنطقة) وهنَّ يتوجهن إلى المقهى المطل على “جبال الجرجرة”؛ لاقت رواجًا كبيرًا حيث تم تداولها على نطاق واسع.
“نساء القرية ساندوني وسمحوا لهذا المشروع بعدم التوقف… يأتون دائمًا ويشجعونني. فتح مقهى يتطلب إرادة وتصميم. أنا تحليت بالصبر وهن ساعدنني كثيرًا”، قالت وريدة، صاحبة المقهى في تصريح لقناة بربر تيفي الناطقة باللغة الأمازيغية.
وفي تصريح لنفس القناة، ثمّن نساء القرية مبادرة وريدة التي قالت إنها سمحت لهنَّ بالحصول على فضاء يجتمعن فيه خارج بيوتهن.
وتقول الدكتورة خديجة بوسعيد إن هذه المبادرات تُسمى في السوسيولوجيا بـ”تكتيكات فضائية” لإعادة الاستيلاء على الفضاء العام وتُعتبر “كرد رمزي على الأوامر التي تفرض على النساء عدم دخول بعض المقاهي المخصصة للرجال”.
وتعتبر الدكتورة أن هناك تكتيكات مختلفة للاستيلاء على الفضاء العام: “يمكن أن يكون ذلك من خلال استهلاكه بطريقة اقتصادية، وهذا ما نلاحظه منذ عقدين من الزمن حيث أصبحت النساء أكثر تعليمًا وأكثر انخراطًا في سوق العمل”.
وتؤكد على أن “الاستقلال المادي هو وسيلة لتمكين النساء من استهلاك الأشياء وبالتالي المشاركة بشكل أكبر في المجتمع. حتى التنزه والتواجد جسديًا في المساحات العامة يعتبر تكتيكًا”.
مكانك في المطبخ
نهى، طالبة في العشرينات من العمر، تُثمن كل هذه “التكتيكات” التي تشجعها على احتلال الفضاء العام براحة أكثر وممارسة هواية الركض. حيث بدأت نهى ممارسة الرياضة البدنية بتوصية من الطبيب بعد أن تم تشخيصها بـ”متلازمة تكيس المبيضين”.
في 2018 تعرضت شابة جزائرية إلى التعنيف اللفظي والجسدي من طرف شاب بسبب ممارستها الرياضة في فضاء عام قبل أذان المغرب في شهر رمضان. فاعتدى عليها الشاب متحججًا بأنها يجب أن تكون بالمطبخ في ذلك الوقت.
الحادثة أحدثت ضجة كبيرة وأعادت فتح النقاش حول مكان المرأة في الفضاء العام. وبعد قرابة الثماني سنوات مازالت الكثير من النساء يستحضرن تلك الحادثة لتبرير خوفهن من تواجدهنّ في الفضاءات العامة.
“ترددت كثيرًا قبل ممارسة الرياضة في الخارج، كنت أمارسها في القاعات المتخصصة إلا أن الأسعار لم تناسب محفظتي كطالبة… ثم اكتشفت مجموعة من الفتيات يمارسن الرياضة في الهواء الطلق وانضممت إليهن.. لقد أدركت بعد ذلك وجود مجموعات أخرى عديدة”، تقول نهى لمنصة “هنَّ”، مضيفة أنه رغم بداية تعميم هذه المبادرات، إلا أن “الحيطة والحذر يظلان شرطان أساسيان”.
وحسب عالمة الاجتماع خديجة بوسعيد، فـ”الرجال يتحلون بمنطق ثابت ويشعرون بشكل طبيعي بالراحة في الفضاء العام، بينما تتوارث النساء مخاوف التواجد فيه”.
وتعتبر تقول الدكتورة أن هناك مشكلة في التنشئة الاجتماعية، “لأنه يتم زرع عقول النساء بأن الفضاء العام هو فضاء خطير، فضاء يسبب القلق، والنساء يعملن على إعادة إنتاج التفاوتات التي تم نقلها إليهن ويعدن إنتاج نماذج غير متساوية، إذ أن أمهاتنا يقلن لنا: لا تخرجي في الليل، لا تمرّي في شارع غير مضاء، وكل هذه الأمور تجعلنا نعتقد أن الفضاء العام ليس مكانًا مخصصًا للنساء”.
السوسيولوجية الجزائية في حديثها مع “هنَّ”، تعتبر أن “مفهوم الزمن له تأثير كبير، وهذا موجود في كل أنحاء العالم، بمعنى أن الليل يمثل مشكلة بالنسبة للنساء. الفضاء الليلي ينتمي إلى الرجال، وعندما تتعرض النساء للاعتداء في الليل، لا يُسأل من اعتدى عليهن، بل يُسأل ماذا كنّ يفعلن في هذا الوقت؟”.