مازالت آثار الحريق الذي أتى على أكواخهن شاهدةً على هول ما حدث، فالبلاستيك الذي كان غطاءًا لهذه “البراريك” المهترئة التي كانت لهن مأوى في هذا المخيم؛ شكل أرضيةً سوداء تغطي التربة، كأنها شاهدٌ صامتٌ على هول المأساة التي تشكل فصلًا يتكرر في حياتهنّ كل عام.
في صبيحة اليوم الـ28 من دجنبر الماضي، نشب حريق جديد في 120 كوخًا في مخيم العمال المهاجرين في “لوسينا ديل بويرتو” مدينة هويلفا الإسبانية.
وأدّت النيران المشتعلة إلى بقاء مئات الأشخاص في العراء قبل ساعات قليلة من نهاية العام. ولحسن الحظ لم تقع خسائر بشرية أو إصابات. غير أن مجلس مدينة لوسينا ديل بويرتو لم يقدم أي حل سكني للمتضررين.
تلك النيران لم تلتهم الأكواخ فقط، بل كانت تفضح مأساة تتكرر كل عام، حيث تعيش العاملات المغربيات، يقطفن الفراولة بيدين متشققتين، ويحلمن بأن يكون هذا العام أفضل من سابقه. ولكن الحلم سرعان ما يتبدد أمام واقع الاستغلال، حيث يصبح العمل فخًا، والعقد وثيقة “عبودية حديث”، والرحلة إلى أوروبا مجرد سراب يقود إلى جحيم من العيش غير المرئي.

“نعيش هنا وكأننا لسنا موجودين”
أشعة الشمس ساطعة جدًا، والجو حار رغم أنه فصل الشتاء، يتحد الرمل وأشعة الضوء لتوليد سحب كثيفة من الغبار البرتقالي الذي يطفو في الهواء مع كل خطوة نخطوها في هذا المخيم، هنا تختلط الأكواخ المحروقة بجذوع الصنوبر المتفحمة، بينما تتجول القطط بحثًا عن الشمس، وتتجنب الأجهزة القديمة، والأحذية، القناني والأواني البالية، علب الحليب والصابون وغيرها من المهملات التي تملأ المكان.
وفي هذا المكان، تعيش نجاة، 39 سنة، إمرأة أمضت 4 سنوات في إسبانيا دون وثائق إقامة، إصابتها بمرض السرطان منعتها من العودة إلى المغرب، كما حرمتها من القدرة على العمل، “حين أتيت في سنتي الأولى لم أشتغل إلا أياما قليلة، ثم أصبت بمرض السرطان، ومنذ ذلك الحين لم أشتغل” هكذا تلخص هذه السيدة حكايتها لـ”هنَّ”.

“كنت مريضة، زرت الطبيب وأجريت عملية، لم أشتغل لحد الآن 4 سنوات لم أشتغل فيها ولا أملك الوثائق وأقطن هنا في هذا المخيم”، تقول لـ”هنَّ”، نجاة التي تحفَّظت عن كشف هويتها.
وتسترسل نجاة في الحديث عن معاناتها هنا، في هذه الأكواخ دون عمل أو دخل، “يساعدني الناس لأعيش، لأنني لا أعمل، لا أملك الوثائق، كنت أملك بطاقة صحية من أجل العلاج وبعد علاجي لم أعد أملكها ولم أعثر على عمل في الوقت الحالي”.
وتوضح المرأة لـ”هنَّ”، أن النساء في هذه “البراريك”، “يعانين من غياب الماء والكهرباء، نعيش هنا وكأننا لسنا موجودين، نعيش حالة مزرية، حاليا لا نملك الماء والكهرباء، نعيش وضعا صعبًا”.
“نعاني بسبب إندلاع النيران، وغياب الماء والكهرباء وانعدام فرص الشغل، حيث لا يعمل إلا من لهم وثائق هوية أما من لا يملكها فيعيش حياة التشرد”، تقول المرأة بحزن شديد.
هذه النيران لم تحرق الأكواخ فقط، بل سلطت الضوء من جديد على “العنصرية والإهمال المستمر الذي تمارسه الإدارات المختلفة بشكل مستمر يرهق ويضعف الناس الذين يعانون منه يوميا وحتى أولئك الذين يحاولون المساعدة”، كما تقول الناشطة آنا بينتو لـ”هنَّ”.
منصةُ “هنَّ” شدت الرحال إلى هذا المخيم، استمعت لشهادات من قبلنّ الحديث، فالخوف من انتقام المشغلين ممن يفضح الإنتهاكات والتجاوزات وصل فيهنَّ العظم، رغم أن ألسنة اللهب التي أحرقت ذلك المخيم؛ كانت في عمقها تضيء ما تحت الرماد من ماءٍ عفن!
وخلال البحث والتقصي، قابلنا نساء اشتغلن في حقول الفراولة، نشطاء وحقوقيين يدافعون عن العمال والعاملات في حقول الفراولة، صحفيين وفاعلين مدنيين أيضًا، فتشنا في هذه القضية المتشعبة والعابرة للحدود، فهاته النسوة أغلبهن قادمات من المغرب بعقد عمل في بلدهنَّ، ترعاه السلطات في البلدين، وبشروط معينة وبإغراءات كثيرة؛ سرعان ما اكتشفن أنها كانت سرابًا يفضي إلى جحيم، يتأرجح ما بين “الاستغلال والعبودية” حسب تعبير خلص إليه حقوقيون استشارتهم “هنَّ”.
“الظروف هي التي قادتنا إلى هذا المكان”
تخيل أن تهاجر من بلدك الأصلي مع وعد بالحصول على عمل يوفر لك الاستقرار الاقتصادي، ويحل بعض مشاكلك، وعندما تصل، أول ما ستكتشفه هو أنه لا يوجد هذا؛ بل عليك العثور على ذلك بنفسك وبناء مكان للاحتماء فيه.
تخيل أن الفقر والحاجة، تدفعك كل سنة إلى إعادة نفس التجربة، لمدة 17 سنة، في ظروف عمل أسوأ بكثير مما وُعدتَ به؛ هذا هو الواقع الذي عاشته حنان (إسم مستعار)، وهو واقع آلاف العاملات الموسميات اللائي يحافظن سنة بعد سنة على الإنتاج الزراعي في مقاطعة هويلفا على حساب استغلالهن وانتهاك حقوقهن.
تجلس حنان على ما تبقى من شجرة الصنوبر التي أكلتها ألسنة اللهب، وبحزن عميق، تحكي لمنصة “هنَّ” عن معاناتها التي تلخص مأساة العاملات الموسميات هنا في حقول إسبانيا “بعدما أنهينا الإجراءات وأجرينا التحاليل وأنجزنا الوثائق المطلوبة منها حسن السيرة (السجل العدلي)، أتوا بنا إلى هنا، اشتغلت في الفراولة حوالي 17 عاما، ولم يقدموا لنا فيها أية مساعدة”.

تقول حنان، وهي أم لخمسة أبناء، أنهن حين يحتجن إلى زيارة الطبيب عليك أن تدفع، و”تقتني الدواء بنفسك… نوافق ونمضي على أي شيء اشترطوه علينا، وحين تزورنا جمعية ما يطلب منا عدم الخروج حتى لا يرانا أحد”.
تبتلع المرأة الناجية من الحريق ريقها، وتضيف “17 سنة ليست بالهينة، وفي كل عام يطلب منا ألا نبقى وأن نعود إلى المغرب، ويطمئنوننا بإنجاز وثائق الإقامة، ولكن لم يحصل ذلك”.
“لم يحتسبوا أيام عملنا، كنا نشتغل معهم 5 أو 6 أشهر، كل سنة تختلف عن أخرى، وإذا اشتغلت 3 أشهر تحتسب لك 20 يوما أو 18 يوما فقط، قيل لي أني مقيمة وبإمكاني متابعة رب العمل لكنني لم أرغب في ذلك لا أريد المشاكل”، تؤكد حنان في تصريحها لـ”هنَّ”.
وتكشف أنها حين اطلعت على كشف ساعات عملها، “لم أجد أيام عملي مكتوبة بها، تعمل لشهرين أو ثلاثة أشهر وتحتسب لك 18 أو 15 يوما في السنة، ليس من السهل الاشتغال 17 سنة حتى ضعفت قواي”.
“كنت أبلغ من العمر 24 سنة، أما الآن فلا أحد سيرغب في توظيفي، لا أحد سيقبل بي، الدولة هنا لن تقبلني كما لن يقبلني بلدي… فمن سيتكفل بي؟ ابنك من بطنك وفي مثل هذه الحالات لن يعيلك، فإنسان معطوب ومصاب لن يقبل به أحد، أنا حاليا تائهة أشعر وكأني محتجزة في سجن دون قانون”، تسرد المرأة وقد غلبت عليها دموع القهر.
تتطلب هذه الحقول بنية جسدية قوية، هذا ما تؤكده حنان، فالمشتغلون “يقومون بتسريح النساء المسنات، ولم يعودوا يقبلون عملي عندهم، ففكرت حينها بالبقاء في إسبانيا سرًا، ففي المغرب لا وجود للعمل، تشتغل بـ500 أو 600 ريال؛ (25-30 درهمًا)؛ في مقهى أو مطعم لساعات من الصبح إلى منتصف الليل”.

“لدي 5 أطفال، تخلى عني زوجي وترك في كنفي خمستهم، إضافة إلى إبني أختي اليتيمين، ولا أملك ما يسد رمقنا، فكرت في الهجرة السرية، فلو بقيت هناك لن أحصل على شيء 500 أو 600 ريال لا تنفع في شيء، ولا تكفي لا للكراء ولا للإنفاق ولا للمدرسة سبعة أطفال وأنا الثامنة، هذا ليس أمرا سهلا”.
بعد أن أنهكها تعب السنين، وخانتها قواها، وجدت هذه المرأة نفسها مهاجرةً غير نظامية، تعيش وسط مخيم في “براريك” من الخشب والبلاستيك، “لأني لا أملك المال للإيجار ولا للإنفاق… الغالب الله ما باليد حيلة، الظروف هي التي قادتنا إلى هذا المكان”.
“الفقر هو الذي يأتي بك إلى هنا، لو أنني وجدت شيئا إيجابيا لما افترقت عن أبنائي وجئت إلى هنا، لم أبتعد عن أبنائي إلا بصعوبة، 4 سنوات لم أر فيها أبنائي وهذا ليس سهلا… ليس سهلا، والظروف صعبة للغاية”، تضيف حنان.
وتسترسل المرأة، شارحةً معاناتها بعد اضطرارها إلى البقاء في إسبانيا بطريقة غير نظامية “أنا لا أشتغل الآن ولا أملك ما يسد رمقي، وحتى إن طلبت من الناس المساعدة للتطبيب لا من مستجيب… حاليا لا أستطيع الوقوف على رجلي وإذا وضعت رأسي على الوسادة أحس بالدوار وأخال أن زلزالا قد حصل”.
عقود الـ”أنابيك” بالمغرب.. “وثائق محروقة”
يسبغ الوجع على هذه المحاصيل من أنفاس العاملات المتعبة، وينفح فيها تعبهنَّ لتخرج غالية الثمن مغمّسة بآلام النساء، مضرّجة بلهفة التوق لأجرٍ متخيل هناك في المغرب، كان مزخرفًا ببراءة نساءٍ يشترط أن يكنّ أمهات، يبحثن عن مورد رزق لعوائل فقيرة، ولكن “سلطة الفقر” تدفعهم إلى مرارة حقول الفراولة.
“الوكالة الوطنيّة لإنعاش التشغيل والكفاءات” (ANAPEC اختصارًا بالفرنسية)، هي المكلفة في المغرب بتشغيل العاملات الموسميات في حقول إسبانيا، وتأتي هؤلاء النسوة إلى إسبانيا حسب عروض الطلب الصادرة عن الـ”أنابيك”، والتي تتوفر “هنَّ” على نسخة منها؛ بشروط عمل مضبوطة، تفرض أن تكون الواحدة منهنّ: ذاتُ عمرٍ بين “25 إلى 45 سنة، تتوفر على تجربة عمل في المجال الفلاحي، قابلة للعيش في الوسط القروي، تتمتع بصحة جيدة، وأم لأطفال قاصرين تتكفل بهم”.

هذه الشروط شيء “يشبه الاختطاف المقنن في إسبانيا يضمن عودتها” يقول الصحفي الإسباني، بيريوكو إيتشيبارِّيا، مدير موقع “لامارْ دي أُونوبا”، الذي ظل لسنواتٍ طوال يغطي قصصهنَّ.
وتقول ذات الوثيقة في خانة ظروف العمل: أن العقد “محدد المدة في 3 أشهر، مع فترة تجربة محددة في 15 يومًا، الراتب الصافي 37 أورو عن كل يوم عمل، عدد ساعات العمل اليومية: 6 ساعات ونصف مع استراحة لمدة نصف ساعة، عطلة أسبوعية لمدة يوم واحد، السكن من طرف المشغل، النقل في إسبانيا بين مقر السكن ومقر العمل مؤمن من طرف المشغل”.
ورغم أن أغلب هؤلاء النساء ينحدرن من وسط قروي، وهنّ أميات، إلا أن العقود التي تم توقيعها معهنَّ في المغرب، هي عقود مكتوبة باللغة الإسبانية، كما تفيد نسخة من أحد العقود؛ استطاعت “هنَّ” النفاذ إليه.

وحين يصلن إلى إسبانيا، لا تعطى لهنّ نسخة من العقد الجديد الذي يوقعنه مع الشركات الإسبانية، التي تختارهن ولا يخترنها، الشيء الذي يتعارض مع “الحق في اختيار العمل بحرية”، والذي تحميه اتفاقيات منظمة العمل الدولية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
بالإضافة إلى ذلك، تتم مصادرة جوازات سفرهنّ، على الرغم من أن القانون يحظر ذلك، حيث تعتبر المنظمات الحقوقية والهيئات الدولية أن هذا نوع من “تقييد حرية التنقل”.
ويتم استقدام العاملات المغربيات إلى إسبانيا، عبر نظام “خيكو”، وهو “النظام الأساسي لتوظيف العمالة الموسمية” في إسبانيا (GECCO)، وهو إطار قانوني يتم من خلاله تنظيم عملية التعاقد الجماعي مع العمال الأجانب من بلدانهم الأصلية، بهدف تلبية احتياجات سوق العمل الإسباني في قطاعات معينة، مثل الزراعة، السياحة، والبناء، خاصة في الأعمال الموسمية أو المؤقتة.
ويرتكز هذا النظام على “اختيار العمال من دولهم الأصلية بالتعاون بين السلطات الإسبانية ونظيراتها في الدول الأخرى، مما يضمن توظيفًا قانونيًا ومنظمًا”.
وتنص مدة العمل فيه على عقود يجب أن تكون “مؤقتة ومحددة بفترة زمنية تتناسب مع احتياجات القطاع (عادةً خلال الموسم الزراعي أو السياحي)”.
ومن شروط اختيار العمال التي ينص عليها، “الخبرة المهنية، القدرة على العمل في الظروف المطلوبة، الأولوية غالبًا تُمنح للأشخاص الذين لديهم التزامات عائلية، مما يضمن عودتهم إلى بلدانهم بعد انتهاء فترة العمل”، وهو نفس ما وجدناه في وثيقة الـ”أنابيك”.
ولكن في هذا النظام، يفرض ضمان حصول العمال على: “أجر يتماشى مع القوانين الإسبانية وعقود العمل”، بالإضافة إلى “سكن مناسب يوفره صاحب العمل، “النقل بين بلد الإقامة إلى إسبانيا، وكذلك بين مكان السكن والعمل داخل إسبانيا”.
كما يفرض هذا النظام العودة إلى البلد الأصلي، فهو يركز على مبدأ “الهجرة الدائرية”، مما يعني أن العمال ملزمون بالعودة إلى بلدهم الأصلي بمجرد انتهاء العقد.
ويُستخدم نظام “GECCO” على نطاق واسع في مجال الزراعة، مثل توظيف العاملات الموسميات من المغرب لجني الفواكه الحمراء (كالفراولة) في منطقة “هويلفا”.
ويؤكد الخبراء الذين حدثتهم “هنَّ”، على أن احترام نظام “GECCO”، يعتمد على العديد من العوامل، من بينها “التزام أصحاب العمل بالقوانين، ومتابعة السلطات الإسبانية لذلك، ومدى وعي العمال بحقوقهم”.
“ورغم أن النظام صُمّم لضمان التوظيف العادل وتنظيم العمالة الموسمية، إلا أن شهادات العاملات “تؤكد استغلالًا عنصريًا وانتهاكاتٍ تشبه العبودية” تقول لـ”هنَّ”، الناشطة الإسبانية آنا بينتو.
وحسب شهاداتٍ استمعت إليها هذه المنصة، فهنّ يعشن ظروف عمل قاسية، حيث يعملن في بعض الأحيان، في ظروف صعبة، مثل العمل لساعات طويلة تحت أشعة الشمس أو في ظروف صحية غير مناسبة، بالإضافة إلى عدم تقديم الاستراحات الكافية أو تجهيز أماكن العمل بشكل مناسب.
وعلى الرغم من أن السكن يجب أن يكون مسؤولية صاحب العمل، إلا أنهنّ يرغمن على العيش في مساكن غير لائقة أو مكتظة، “لا يمكن لهن فيها حتى استقبال ضيوف” تؤكد آنا.

وتكررت حالات بالمئات من عدم دفع الحد الأدنى للأجور المقررة، في انتهاك واضح للعقود سواء فيما يخص مدة العمل أو العطلات أو مزايا أخرى مذكورة في العقد، كالساعات الإضافية.
ويعلق بيريوكو إيتشيبارِّيا في حديثه لـ”هنَّ”، وهو يبتسم بسخرية، “هذا شيء مغري جدا لامرأة قادمة من أقاصي بوادي المغرب، ولكنه ليس الواقع فالعقود هنا؛ بعد وصولهنّ إلى هويلفا عقب 36 ساعة من السفر بما فيها إجراءات عبور الحدود؛ توقع مع أصحاب الضيعات بلغة إسبانية لا يفهمنها”.

“المغزى من عقود العمل هذه، والموقعة في المغرب، لنساء جلهن أميات، فقيرات، ولديهنّ مسؤوليات عائلية حيث أنهنّ ربات بيوتٍ ومسؤولات عن عائلات فقيرة؛ مردهُ لضمان عدم محاولتهنّ البقاء في إسبانيا… إنها طريقة ذكية لاختيارهن في بلدهن ولكنها في رأيي سلطة الجوع أو سلطة الفقر هي التي ترغمهنّ على القبول”.
“من خلال سنوات عملي على هذا الموضوع أوكد لك أنها لا توجد شركة فلاحية في هويلفا تحترم عقود العمل- أتحدث عن الموقعة هنا- أما التي وقعت في المغرب فهي ( un papel mojado: وثيقة مبللة) لا تساوي شيئا”.
غياب رقابة صارمة على العقود
في المقابلة التي أجرتها معه منصة “هنَّ”، يكشف الصحفي الإسباني، بيريوكو إيتشيبارِّيا، الواقع الذي تعيشه هؤلاء العاملات المغربيات في إسبانيا، واللواتي يواجهن ظروفًا صعبة ومقلقة.
ويشير الصحفي إلى أن الوضع في إسبانيا، وفقًا للتحقيقات التي يجريها منذ سنوات، “يظهر تناقضات كبيرة بين العروض التي يتم تقديمها للعاملات قبل قدومهم إلى إسبانيا، وبين الواقع الذي يواجهنه هنا”.
ويرى الصحفي الإسباني، أن “شروط العمل وضرورة أن تكون العاملة أمًا بين الـ25 والـ45 هو شيء يشبه الاختطاف المقنن، حتى يضمنوا عودتها”.
“يجب أن تكون شروط التعاقد متوافقة مع القوانين الإسبانية، لكن الواقع يظهر أن العديد من هذه الشروط لا تُنفذ بشكل صحيح”، يؤكد إيتشيبارِّيا.

ويوضح أن “العروض التي تُقدم للعاملين تتضمن عقودًا للقدوم إلى إسبانيا للعمل لفترة قصيرة، مع راتب شهري وإقامة لائقة، ولكن بمجرد وصولهن إلى إسبانيا، يواجهن ظروفًا لا تطابق هذه العروض”.
ويقول أنه وفق العقود “يُفترض أن يتوفر للسكن شروط محددة، مثل مساحة كافية، تهوية جيدة، كهرباء، حمامات، وأماكن للطهي. ومع ذلك، في كثير من الحالات، لا تتوفر هذه الشروط، مما يؤدي إلى ظروف معيشية مزرية”.
وعلى الرغم من أن العقود يجب أن تُترجم قبل توقيعها، إلى اللغة العربية أو الفرنسية اللغات المتداولة في المغرب، “إلا أنه لا وجود لأي ترجمة، بل إن هذه العقود قد تم تعديلها أو تغييرها بعد وصول العاملات إلى إسبانيا”، يضيف المتحدث.
ويشدد على أنه “رغم أن العقود تشير إلى ضرورة توفير تأمين صحي طوال فترة الإقامة، فإن العديد من العاملات لا يحصلن على التأمين، مما يضطرهن لدفع تكاليف العلاج بأنفسهن”.
أيضًا، يقول بيريوكو إيتشيبارِّيا أن “العديد من العاملات يواجهن تأخيرات في دفع رواتبهن، مما يجعلهن في وضع اقتصادي صعب”.
ولا يخفي هذا الصحفي قلقه من أن هذه المشاكل قد تتفاقم في المستقبل إذا لم يتم تطبيق رقابة صارمة على العقود وضمان حقوق العمال، ويؤكد أن “هناك حاجة لتطبيق القوانين بشكل صحيح لضمان حماية حقوق العمال في إسبانيا”.
وبين عقودٍ مبرمة في المغرب وأخرى موقعة في إسبانيا، وما يرافق ذلك من معاناة، تعيش العاملات المغربيات، بين حرائق النار، قساوة الظروف ومسغبة الغربة.
“صورة واضحة للإستغلال وغياب العدالة”
بين تنكر لعقودٍ تمّ الاتفاق عليها في المغرب، ووأد للحقوق التي تضمنها كل المواثيق الدولية، من أجل منفعة واحدة هي جيوبُ ملاك المزارع وأباطرة الصناعة الزراعية في الأندلس؛ تعيش عشرات الآلاف من المغربيات في جحيمٍ تختلف فصوله ولكن جوهره واحد.
نقطة ضوء وحيدة تلمع في الظلام كذؤابة شمعة يتيمة، هي هاته المنظمات غير الحكومية التي تعمل على مساندة العاملات المغلوبات على أمرهن، إنهن نساء يحاولن بأياديهن لا بأيادي غيرهن إعادة الحقوق إلى سِكتها، كلما سلكت بقيادة أحدهم منعرج الانتهاكات الصارخة.
كان على الناشطة الإسبانية آنا بينتو، أن تستجمع قواها للحديث، وتبلع ريقها قبل أن تتحدث عن واقع العاملات الموسميات في هويلفا، وهن اللواتي “يشتغلن في واقع مزرٍ، بعقود عمل وقعت في بلدهن الأصيل”، واللواتي أصبحت تناضلُ من أجلهن لتحسين حقوقهن في منظمةِ “نضال العاملات في هويلفا” (Jornaleras de Huelva en Lucha)، حيث كرست هذه الشابة حياتها لحقوقهن، بعدما سَاءها واقعهنَ.

بدأت قصة آنا بينتو مع النضال من أجل حقوق العاملات في سنة 2018، عندما اشتغلت في إحدى المزارع، رأت واقعهن المعفر بالظلم والعنصرية، تعرفت على ووضعهنّ الهش، ومن يومها قررت عدم الصمت، والسير في ركب النضال والمطالبة بحقوقهن.
في مقابلتها مع “هنّ”، تتحدث الناشطة الشابة، عن وضع العاملات في قطاع الزراعة في إسبانيا، خاصة في منطقة هويلفا حيث تُزرع الفواكه الحمراء. وسلطت الضوء على التحديات التي تواجههن، مثل استغلالهن في عمل منخفض الأجر في ظروف قاسية، وعدم احترام حقوقهن الأساسية.
وتشرح المتحدثة كيفية استقدام العاملات من مناطق فقيرة للعمل في الزراعة بموجب عقود موسمية، وتُستغل النساء في هذا القطاع في ظروف عمل غير قانونية، مثل عدم أداء أجر الساعة الإضافية أو تسجيل ساعات العمل الحقيقية.
كما تشير الناشطة إلى الفروق بين ما ينص عليه القانون والنظام الزراعي في إسبانيا من جهة وما يحدث على أرض الواقع من جهة أخرى، حيث تُجبر العاملات على العمل لساعات أكثر من المتفق عليه دون تعويض مناسب.
“العاملات اللواتي يعملن في قطاع الزراعة في المغرب يشكلن جزءاً من نظام عقود العمل الموسمية. عادةً ما يصل عدد العاملات إلى حوالي 15 إلى 20 ألف امرأة في السنة، حيث يتم استقدامهن للعمل في الزراعة في إسبانيا”، تقول بينتو لـ”هنَّ”.
وتؤكد أنه “في إسبانيا، نعاني من التمييز العنصري في النظام المؤسسي، وهذا ليس مقتصرًا على إسبانيا فقط، بل يشمل أيضًا باقي دول أوروبا. ومع ذلك، يحتاج النظام إلى العمالة الأجنبية في القطاعات الأقل جاذبية، مثل الزراعة، حيث يتم استغلالهن في الأعمال منخفضة الأجر”.
وتوضح الناشطة أن “قطاع الزراعة في هويلفا، خاصة صناعة الفواكه الحمراء، يعتمد بشكل كبير على العمالة الأجنبية الضعيفة اقتصاديًا من دول فقيرة. هؤلاء العاملات يُجلبن للعمل في ظروف صعبة ويُشترط عليهن العودة إلى بلادهن بعد فترة معينة من العمل”.
وشددت على أن “النظام الزراعي في إسبانيا يعتمد على عدد ساعات العمل الفعلي فقط، مما يعني أن العاملات لا يتقاضين أجرًا عن الأيام التي لا يعملن فيها بسبب الطقس أو أي سبب آخر. يجب ضمان 85 بالمائة من الأيام المُتفق عليها للعمل، لكن في الواقع، لا يُحترم هذا الشرط بشكل كاف”.
وكشفت أن العاملات في الزراعة “لا يحصلن على تعويضات عادلة لساعات العمل الإضافية. على الرغم من أن القوانين الإسبانية تشير إلى أن الساعات الإضافية يجب أن تُدفع بنسبة 25 بالمائة إضافية للساعة الأولى و75 بالمائة للساعة التي تليها، إلا أن هذا لا يُنفذ بشكل فعلي، وغالبًا ما تُدرج الساعات الإضافية تحت بند آخر مثل -مكافأة الإنتاج- التي لا تلتزم بالقانون”.
“في بعض الأحيان، يتم تقليص عدد الأيام التي يظهرن في كشف الرواتب. إذا عملت العاملات 20 يومًا في الشهر، قد تُدرج الرواتب كما لو أنهن عملن 15 يومًا فقط، لتفادي دفع الحد الأدنى للأجور”، تشرح آنا لمنصتنا.
الناشطة الحقوقية في سبيل حقوق العاملات الموسميات، خلصت إلى أنّ “الوضع يعكس صورة واضحة للاستغلال وغياب العدالة في القطاع الزراعي الإسباني، حيث تُحرم العاملات من حقوقهن الأساسية في بيئة عمل لا تحترم القوانين المحلية أو الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان”.

الحقوق القانونية بين النص والتطبيق
وفقًا للقوانين الإسبانية، يُلزم أصحاب العمل بتوفير عقود عمل تتماشى مع القانون الأساسي لحقوق العمال (Estatuto de los Trabajadores)، الذي ينص على أن “العمال الموسميين يجب أن يحصلوا على ظروف عمل عادلة، بما في ذلك أجر لا يقل عن الحد الأدنى الوطني (SMI)، وساعات عمل محددة، وضمان اجتماعي وصحي”. كما أن اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 97 الخاصة بالعمال المهاجرين تؤكد على “ضرورة حماية حقوقهم ومنع التمييز ضدهم”.
لكن في الواقع، لا يتم احترام هذه القوانين بشكل كامل، حيث تتعرض العاملات المغربيات لانتهاكات عديدة مثل عدم دفع الأجور المستحقة، العمل لساعات طويلة دون تعويض، وحرمانهن من الحد الأدنى من ظروف العيش اللائق.
هذه الانتهاكات تتعارض أيضًا مع الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، التي تضمن الحق في ظروف عمل عادلة وإنسانية، ما يضع النظام الوظيفي الإسباني في مواجهة معايير حقوق الإنسان الدولية.

دراسة: انتهاك شامل وغير مرئي لحقوق المغربيات
في أكتوبر 2023، توصلت دراسة بحثية أجرتها آنا فرنانديز كيروجا (حاصلة على درجة الدكتوراه في العلوم الاجتماعية، من “جامعة بابلو دي أولافيدي” في إشبيلية) ومارتا مولينا فرنانديز (حاصلة على درجة الماجستير في الزراعة البيئية، “الجامعة الدولية بالأندلس”)، تحت عنوان “الاتجار بالعاملات الموسميات في هويلفا، إسبانيا: نقاط ضعف وتحديات جديدة”، إلى أن “من الواضح أن القواعد المنظمة لعملية تشغيل العاملات الموسميات المغربيات للعمل في الحملات الزراعية بإقليم هويلفا، وكذلك تطبيق هذه القواعد، يجب أن تخضع لمراجعة كاملة”.
وقالت الدراسة أن هذه المراجعة يجب أن يكون هدفها “التأكد من أنها تتوافق مع حقوق الإنسان في العمل الذي تتمتع بها النساء والرجال في إسبانيا، نظرًا لإدراجهم في نظام توليد الدخل وإنتاج الضرائب الذي يستفيد منه مجتمع هويلفا بأكمله”.
وتسلط الدراسة الضوء على مخاطر الاستغلال الجنسي والاستغلال في العمل للعاملات الموسميات المغربيات، مع التركيز بشكل خاص على أولئك اللواتي يقررن عدم العودة إلى بلدهن والبقاء في مخيمات هويلفا.
وأوصت الدراسة، بمراجعة “عملية التوظيف الحالية في البلد الأصل”، معتبرةً بأنها “تمييزية في اختيار النساء العاملات المعرضات للخطر، فهن مجموعة غير محمية، مهددة يخطر كبير من الإقصاء والعجز بسبب سياق العداء والعزلة الاجتماعية”.
وسجلت الدراسة مخاطر الاستغلال الجنسي في سياق الإقصاء الاجتماعي والثقافي للعاملات الموسميات المغربيات المهاجرات في إقليم هويلفا.

وتقول الباحثتان أن “النتائج تظهر علامات الاتجار ومؤشرات الاستغلال الجنسي والاستغلال في العمل”، مشيرتين إلى إن “العاملات الموسميات المغربيات لا يتمتعن بالحماية، وهناك انتهاك شامل وغير مرئي لحقوق المرأة في مخيمات هويلفا”.
وانطلقت الدراسة من المغرب، البلد الأصل لهؤلاء العاملات، “حيث تسمح السلطات بعملية توظيف تمييزية تعطي الأولوية لنساء مستضعفات ما يوفر للشركات ضمانات بأنهن سيعدن إلى بلادهم”.
وترى الدراسة أن هذه الضمانات “ليست موضوعية أو اقتصادية، بل تستند إلى معايير ذاتية تركز على التمييز بين الجنسين: أن تكون امرأة، أن تكون أمًا، أن تكون زوجة”، كما تقول المؤلفات.
وتؤكدان على أن هذه الملفات الشخصية تستهدف الأماكن القروية، وهي “المناطق التي من المعروف أن المستوى التعليمي للمرأة فيها منخفض بسبب الفقر وصعوبات إكمال النساء لدراستهن”.
وأثبتت الدراسة أيضًا أن “المعلومات المقدمة للعاملات في بلدهنّ غير كافية ولا تتناسب مع احتياجاتهنّ”.
ورغم ذلك فإنهن “يلجأن في كثير من الأحيان إلى التعاون مع أزواجهن لاستكمال الإجراءات الورقية في بلدهنّ الأصلي، دون الأخذ في الاعتبار مؤشرات أخرى مثل العنف القائم على النوع الاجتماعي، والذي يبلغ مستويات مرتفعة للغاية في البلاد”.
وبمجرد وصولهن إلى إسبانيا، تقول الدراسة، تجد معظم النساء اللواتي يتم توظيفهن في المغرب أنفسهن “معزولات تماما عن الهياكل البيروقراطية في إسبانيا، حيث يركزن نشاطهن على العمل والحياة في المزارع، بعيدا عن المراكز الحضرية”. وبالتالي، وعلى الرغم من أن العديد منهن يعشن ما يصل إلى ستة أشهر أو أكثر في السنة في إسبانيا لعدة سنوات، فإن الدراسة تشير إلى أن هناك نساء لا زلن يعانين من “افتقار تام إلى المعرفة باللغة، والوثائق الأساسية الخاصة بهن في إسبانيا، وكذلك حقوقهن العمالية”.
وخلصت الدراسة إلى”النظام يواصل إعطاء الأولوية لضمان العمالة وعودتها إلى بلدها الأصلي، متجاهلا احتياجات النساء المغربيات”.

نفي رسمي مقابل واقع مختلف
في المقابل، نفت بعض الجهات الرسمية الإسبانية هذه الادعاءات. فوفقًا لوزارة العمل الإسبانية، “يتم إجراء عمليات تفتيش دورية على الحقول الزراعية لضمان احترام حقوق العمال”.
كما أكدت “جمعية مزارعي الفراولة في هويلفا” (Freshuelva) على أن “الشركات الزراعية تلتزم بالعقود المبرمة، وأن أي حالات انتهاك فردية لا تعكس سياسة القطاع ككل”.

ولكن هذه التصريحات تتناقض مع التقارير الحقوقية وشهادات العاملات، حيث أكدت منظمة “Jornaleras de Huelva en Lucha”، التي تدافع عن حقوق العاملات الموسميات، أن “التفتيش الحكومي غير كافٍ، وغالبًا ما يتم بالتنسيق مع أرباب العمل، مما يجعل من الصعب على العاملات الإبلاغ عن الانتهاكات خوفًا من الطرد أو الانتقام”.
ورغم تفاقم الأزمة، بدأت بعض الجهود الحقوقية تبرز للضغط من أجل تحسين أوضاع العاملات الموسميات. ففي عام 2023، قدمت “منظمة العفو الدولية” تقريرًا يطالب الحكومة الإسبانية بـ”اتخاذ إجراءات أكثر صرامة لضمان احترام حقوق العاملات المهاجرات”.
كما اقترح “اتحاد النقابات العمالية” (CCOO) تطبيق نظام رقابي مستقل، “يسمح للعاملات بالإبلاغ عن الانتهاكات دون خوف من الطرد”.
وفي المغرب، دعت بعض المنظمات النسوية الحكومة إلى إعادة مراجعة اتفاقيات التوظيف الموسمي مع إسبانيا، لضمان توفير حماية قانونية أقوى للعاملات قبل مغادرتهنّ البلاد. ومع ذلك، لا تزال هذه الجهود محدودة التأثير بسبب تعقيد العلاقات الاقتصادية بين البلدين، والضغط الذي تمارسه الشركات الزراعية للاستمرار في نظام التوظيف الحالي.
برنامج “خيكو” يستقطب آلاف المغربيات.. لكن بأي ثمن؟
في كل موسم زراعي، تسافر آلاف النساء المغربيات إلى إقليم هويلفا الإسباني للعمل في حقول الفراولة، ضمن برنامج “خيكو” (GECCO) – أو ما يُعرف بـ”إدارة التعاقدات الجماعية في بلد المنشأ”، الذي أطلقته الحكومة الإسبانية لتوفير يد عاملة مؤقتة ومنظمة في قطاعات موسمية كالفلاحة.
ويُروَّج لهذا البرنامج على أنه نموذج لـ”الهجرة الدائرية”، حيث تنتقل العاملات بعقود مؤقتة من المغرب إلى إسبانيا ثم يعدن إلى بلدهن بعد انتهاء الموسم. لكن خلف هذا النموذج المثالي، تختبئ قصة أكثر تعقيدًا.
بحسب الأرقام الرسمية، شاركت نحو 14 ألف عاملة مغربية في موسم 2022-2023، وارتفع العدد في الموسم التالي إلى حوالي 14 ألفًا و500 عاملة، بينما تجاوز هذا الرقم 15 ألفًا في الموسم الحالي 2024-2025.
رغم هذه الأعداد الضخمة، ما زال الغموض يلف ظروف عمل هؤلاء النسوة. تقارير حقوقية وشهادات متفرقة تحدّثت عن انتهاكات تشمل ظروف سكن غير إنسانية، ساعات عمل مرهقة، وأحيانًا حالات استغلال جنسي أو اقتصادي، وسط غياب شبه تام للرقابة من الجانبين: المغربي والإسباني.
المفارقة أن هذه الانتهاكات تحصل تحت مظلة برنامج رسمي بين دولتين، يُفترض أن يُعلي من شأن “كرامة العامل” ويضمن حقوقه. لكن الواقع، كما تكشفه المعطيات والشهادات، يرسم صورة مغايرة، تسائل جدية كل من “أنابيك” والجهات الإسبانية المشرفة، وتضع علامات استفهام كبرى حول من يحاسب من، ومن يحمي من؟
وفي إطار استقصائنا حول الوضع الذي تعيشه النساء المغربيات العاملات الموسميات في حقول الفراولة بإسبانيا، وفي محاولة للحصول على أجوبة لهذه الأسئلة العالقة؛ راسلت منصة “هُنَّ” كلًا من وزارة الإدماج الاقتصادي والمقاولة الصغرى والتشغيل والكفاءات، والوكالة الوطنية لإنعاش التشغيل والكفاءات (أنابيك)، غير أننا لم نتلقَّ أي رد إلى حين نشر هذا التحقيق.
هذا الصمت الرسمي يطرح أكثر من علامة استفهام حول دور هذه المؤسسات في الدفاع عن حقوق العاملات، ومدى التزامها بمسؤولياتها تجاه فئة هشّة تتعرض لأشكال متعددة من الانتهاكات.
مآسي النساء تنتج ملايين الأرباح
تحافظ هويلفا على مكانتها باعتبارها ثاني مقاطعة مصدرة في الأندلس، متجاوزة 6،878 مليون يورو حتى نوفمبر 2024، وهي نسبة تصل إلى 18.7 بالمائة من الإجمالي في الأندلس، بنمو يصل إلى 12.1 بالمائة، من حيث صادرات الفواكه الحمراء، وهو القطاع الذي حقق أرقام مبيعات قياسية في الأشهر الحادي عشر الأولى من العام، حيث بلغت 1203 مليون يورو.
وتصدر هويلفا فاكهتها الحمراء إلى 43 دولة، ولكن أسواقها الرئيسية هي ألمانيا، بـ373 مليون يورو – 31 بالمائة من إجمالي الإنتاج، تليها المملكة المتحدة، بـ184 مليونًا – 15.3 بالمائة من الإجمالي، وفرنسا، بـ148 مليونًا – أي 12.3 بالمائة من الإجمالي.
وفي المركز الرابع تأتي هولندا، بـ119 مليونًا، بنسبة 9.9 بالمائة، تليها إيطاليا بـ67 مليونًا – 5.6 بالمائة من الإجمالي، ثم البرتغال، مع 47 مليونًا – بنسبة 3.9 بالمائة- والنمسا، بـ43 مليونًا أي 3.6 بالمائة.

وفيما تستمر ضيعات الفراولة والفواكه الحمراء الإسبانية في الانتاج الذي لا يتوقف، تستمر المغربيات الفقيرات في قبول العمل فيها، فهنّ على قدر كبير من عدم المعرفة والأمية، كما أنهنّ على استعدادٍ كافٍ للذهاب بعيدًا عن عائلاتهن، وعيش حياتهنّ الخاصّة في سفرِ البحث عن عمل ومورد رزق؛ وهو سفرٌ تبدأ أول فصولهِ بعقود الـ”أنابيك” وتنتهي في شبه مساكن بالضيعات أو في أكواخ بمخيمات لا تصلح للعيش، مخيماتٌ تجمع أناسًا غير مرئيين، في جوٍ مأساوي متكرر.
في جوهرها، تلخص هذه المأساة قصّة كل امرأة حلمت بحياة أفضل في إسبانيا، وهي توقع عقود العمل هناك في المغرب، قبل أن تَخْلُصَ في نهاية المطاف إلى حقيقة عيش “العبودية الحديثة”، عبوديةٌ يرونها بأم أعينهنَّ بعدما يلجنَ إلى عمق الجحيم في حقول الفراولة، أو بعبارة أخرى: إلى عالم الصناعة الفلاحية، صناعة ضخمة تنتج ثروةً معشقة بحُمرةِ الفواكه الأندلسية، ومعفرة بحُمرةِ دم العاملات المستضعفات بدون حُمرةِ الخجل ولا حُرمَةِ الحقوق.