“تقدم لي شاب للزواج فطردته والدته من المنزل، رافضة ارتباط ابنها بشابة ’مكفوفة‘ للأسف لازلنا في المغرب نعاني من الوصم الاجتماعي للإعاقة عمومًا، ومن عقليات إقصائية للفتاة في وضعية إعاقة بالخصوص، عكس ما يحدث مع الرجل الذي يعاني من نفس الإعاقة”، تقول لمياء في مستهل حديثها مع منصة “هنَّ”.
لمياء، سيدة في الأربعينيات من العمر، مصابة منذ الولادة بإعاقة بصرية، تعمل موظفةً بمؤسسة عمومية، ومنسقة وطنية لـ”الجنة الوطنية للأشخاص في وضعية إعاقة”، بـ”الاتحاد المغربي للشغل”، تحدّت ضعف الإمكانيات التي تمنحها الدولة للمعاقين بصريا، وتحدّت رؤية المجتمع القدحية للفتاة في وضعية إعاقة، لتثبت ذاتها.
توضح لهذه المنصة المعاناة الحقيقية التي تتعرض لها هذه الشريحة الواسعة في المجتمع، “أحيانا نواجه تعاطفا متزايدا من أفراد المجتمع، وأحيانا نتجرع مرارة اللامبالاة في يومياتنا خارج البيت، وأحيانا نتعرض للتنمر، ينضاف إلى ذلك التمييز الذي تمارسه الدولة في حق المكفوفين، وضعاف البصر؛ قرارات، ومراسيم تمييزية مجحفة، فمثلا في أي معاملة مالية، وغير مالية لأي شخص مكفوف، من المفروض توقيع شاهدَين، وهو ما اعتبره ظلما، وتمييزا في ضرب للدستور المغربي، وضرب للمعاهدات الدولية التي وقع عليها المغرب، مراسيم تعتبرنا عديمي الأهلية القانونية”.
“تعرض ابني لحادث سير، والعادي أن أسجل محضرا لدى الأمن، تحدثت مع رجل الأمن عن تفاصيل الحادث، وأخيرا طلب مني أن أَحضر شخصين من أجل التوقيع على المحضر، وهو ما احتججت عليه بشكل كبير، لكن للأسف يحدث هذا في كل معاملة قانونية، أو إدارية أقوم بها، يطلبون ضرورة توقيع شاهدين”، تضيف لمياء.
وتطرقت لمياء إلى “مرسوم يعتبر تمييزيا في حق الأشخاص في وضعية إعاقة في العموم، هذا المرسوم لا يحمينا بل هو خرق لقانون 08.09 المتعلق بحماية الأشخاص الذاتيين تجاه معالجة المعطيات ذات الطابع الشخصي، المفروض أن التكنولوجيا الحديثة سهلت علينا قراءة الوثائق، لماذا الإصرار على الشهود بخصوص المعاملات الشخصية المحضة”. وتعتبر أنه مثل “الحواجز الإدارية والمعمارية الكبرى التي تكرس الإعاقة الفكرية للمجتمع، ولصناع القرار”.
وترى لمياء وجود تناقض كبير بين التصريحات الرسمية والواقع، مؤكدةً على أن “أقل ما يمكن تقديمه لهذه الفئة هي الولوجيات بكل المؤسسات العمومية، وغير العمومية أيضا، المؤسسات التعليمية، المحاكم، المستشفيات، والمقاطعات، وتوفير كراسي متحركة في مداخل الإدارات العمومية للأشخاص ذوي الإعاقة الجسدية، فرض معايير معينة في المرافق الخاصة… للأسف هذه الأمور نجدها متوفرة فقط في المراكز التجارية الكبرى، ربما لأن مهندسي تلك البنايات أجانب”.
ضعف الإمكانيات وسوء المعاملة بالجامعات
في حديثها عن حياتها الشخصية، تعتبر لمياء نفسها محظوظة بوجودها وسط أسرة داعمة، حيث “حرص والدي رحمة الله عليه على تعليمي، وتحملت والدتي، وإخوتي عناء مطاردتي لأحلامي، درست في المنظمة العلوية للمكفوفين بما عليها من ملاحظات؛ إيجابية وسلبية، وبعد مسار طويل في التعليم، انتقلت للدراسة في كلية الآداب بالدار البيضاء، شعبة الأدب الإنجليزي، هنا تضاعفت التحديات لدي، كنت أبحث عن الدروس، وعمن يساعد في كتابتها، بعض الأساتذة الجامعيين كانوا يسمحون لي بتسجيل المحاضرة، فيما كان آخرون يرفضون ذلك في ضرب للإنسانية، وللرسالة التربوية التي من المفروض أن يتشبع بها نساء ورجال التعليم بكل مستوياته، خصوصا التعليم العالي، الدراسة جد سيئة، والوزارة الوصية لا تراعي الأشخاص خصوصية الأشخاص في وضعية إعاقة”.
عبرت لمياء عن أسفها لعدم سن سياسات تعليمية واضحة لهذه الفئة من المجتمع قائلة، “سوء التعامل مع الأشخاص في وضعية إعاقة، عدم الاهتمام بمسارهم الدراسي، تسهيل الولوجيات، تسهيل التحصيل، تقديم الإمكانيات، كلها تسببت في توقف الكثيرين عن الدراسة، في المغرب… مجهوداتك الشخصية الكبيرة، وقوة إرادتك هي سبيلك للتفوق الدراسي، ولتوظيفك، خصوصا الإعاقة البصرية التي تعرف إكراهات إضافية”.
طموحات لمياء كانت أكبر من ضعف السياسات العمومية تجاه هذه الفئة، حيث فكرت في الحصول على إجازة ثانية في علم النفس، لأن “شغفي بهذا العلم جعلني أتحدى الصعاب، تسجلت بكلية الآداب بالبيضاء، كانت تجربة أفضل لأنني طورت من نفسي، أشتغل على الحاسوب، صرت أعتمد على نفسي بسبب التكنولوجيا التي سهلت لي الحياة بشكل كبير، إلى أن حصلت على شهادة جامعية أخرى، وبالموازاة كنت أدرس اللغة الإنجليزية، والفرنسية، بمراكز التربية والتكوين، بعدها درست كل ما يتعلق بالمعلوميات، وكل ما يمكن أن يفيد الأشخاص في وضعية إعاقة، واليوم أُدرس الإعلاميات للمكفوفين، وضعاف البصر من طلبة وموظفين”.
لم تكتفي لمياء بالتحصيل الدراسي، ففي المقابل انتبهت إلى ضرورة النضال النقابي من أجل هذه الفئة المهمشة من المجتمع، لتنضم إلى “الاتحاد المغربي للشغل”، وهناك كما تقول “وجدتُ ضالتي، لأتحدث عما تعانيه هذه الفئة خصوصا النساء في كل مسار أعمارهن، من الطفولة إلى أرذل العمر”.
ضعف النصوص الحمائية للمرأة في وضعية إعاقة
“تعاني المرأة في وضعية إعاقة تحديات مضاعفة، من الرجال من هذه الفئة من المجتمع، كونها امرأة أولا، وكونها في وضعية إعاقة”، توضح نزهة زنبوع، في حديث مع منصة “هنَّ”.
نزهة زنبوع، هي أخصائية في تقنية “برايل”، أم لطفلة، وفاعلة جمعوية ونقابية، وتعاني من إعاقة بصرية، تحدثت عن ضعف الولوجيات التي تعتبر أبسط ما تطالب به هذه الفئة، وترى أن “مدونة الأسرة لم تراعي خصوصيات النساء في وضعية إعاقة، لم تتضمن نصوصا خاصة بهذه الفئة، التي تعيش معاناة مزدوجة، كأم مطلقة مثلا لديها طفل، أو أطفال يحتاجون إلى رعاية خاصة، ومصاريف إضافية، بل هناك من الزوجات من تصبن بإعاقة ما خلال فترة الزواج، فتجد نفسها وبعد سنوات قد تتعدى العشرين سنة، مطلقة، وتتحمل ضريبة إعاقتها ماديا، ومعنويا دون أدنى مراعاة لهذا الأمر خلال توقيع الطلاق، الأمر الذي من المفروض الانتباه إليه، من أجل حماية للمرأة في وضعية إعاقة، وهي أم، زوجة، مطلقة، حاضنة”.
في بيتنا طفلة معاقة
تفتح هدى التي تعيش بمدينة مكناس قلبها لمنصة “هنَّ” بمرارةٍ وهي تحكي عن معاناتها مع ابنتها التي لا تتجاوز الثماني سنوات، “بعد سبع سنوات من الزواج لم أستطع الإنجاب، لذلك قررت وزوجي تبني طفلة بشكل قانوني، إلا أنني اكتشفت أنها تعاني من إعاقة جسدية عميقة، لا تمشي وكلامها جد بطيء، بعد ذلك بسنة واحدة فقط رزقت بولد من صلبي”.
وبين تقبل الواقع، ومأساة الآباء مع أطفالهم في وضعية إعاقة تضيف هدى أن أول عائق تواجهه الأسرة، والأبناء في وضعية إعاقة “يكون المجتمع سببا فيه، فبين تعاطف البعض، وعدم تقبل البعض لطفل أو طفلة مختلفان نعاني الأمرين”.
“للأسف الدولة لا تعمل بشكل حقيقي على إدماج هذه الفئة في المجتمع، لا تمنحهم الأولوية التي يستحقونها، لا تساعد الأسر في تحييد مرارة العجز أحيانا عن تلبية مطالب الأبناء في وضعية إعاقة الضرورية”، تضيف هدى.
وتوضح أن تكلفة علاج طفلة أو طفل في وضعية إعاقة باهظة جدا، فـ”مثلا ابنتي تحتاج كل أسبوع إلى حصتين من الترويض على النطق، كل حصة بقيمة 180 درهم للحصة الواحدة، ثم حصتين للترويض النفسي الحركي بقيمة 200 درهم للحصة الواحدة، وحصتين من الترويض الطبي بقيمة 120 درهم للحصة الواحدة، للأسف السياسة العمومية بعيدة جدا عن حماية هذه الفئة من المجتمع، إن على المستوى المادي، أو المعنوي”.
وتتذكر المتحدثة بألم يعتصرها، “منذ قرابة السبع سنوات، أعتبر نفسي أيضا في وضعية إعاقة، أمام عجز ابنتي على التعايش مع أبسط الأمور، بعد إحداث السجل الاجتماعي لم تعد ابنتي تستفيد من التغطية الصحية، أعيش وأياها مأساة حقيقية وهي خارج البيت، الولوجيات غير موجودة في جميع الإدارات الرسمية، في الشوارع والمحلات، وحتى في الحافلات ليست هناك وسائل تسهل الصعود إليها.. في المغرب يجب أن تكون غنيا للتعايش مع الإعاقة، للأسف الملك محمد السادس منح الأولوية لهذه الفئة لكن لا يتم تنزيلها على أرض الواقع”.
تهميش وعزلة اجتماعية
تعيش معظم النساء، والفتيات في وضعية إعاقة ظروفا حياتية صعبة، تهميش، وعزلة اجتماعية، وفق ما تجربة ابتسام، وهي شابة في مقتبل العمر تعاني من إعاقة جسدية”.
“لم أتمكن من إتمام تعليمي، فعشت بعض العزلة في بيتي، المكان الوحيد الذي أشعر به بالأمان، وبأنني إنسانة عادية، خصوصا وأنني في بدايات طفولتي كنت أرفض استعمال العكاكيز والسير بها، ولم أكن حينها أتوفر على كرسي متحرك، وكانت والدتي لخوفها علي تمنعني من الخروج للعب مع الأطفال، ولا تأخذني معها في الزيارات العائلية حرصا على نفسيتي، حيث كنت أتعرض إلى بعض الإحراج من الأسرة التي تسأل والدتي عن تفاصيل حياتية لا تهمها في شيء، وكنت أتعرض إلى بعض التنمر من أقراني لأني لا أستطيع الحديث معهم إلا بالإشارة… لم أتجاوز ذلك إلا بعد بلوغي 16 من العمر، حينها قررت مواجهة المجتمع”، تقول ابتسام في حديث مع منصة “هنَّ”.
بعد دقائق من الصمت، وضحكة ممزوجة بدموع طالما غالبتها طوال جلسة حديثنا، تضيف ابتسام، “للأسف لا مستوى تعليمي لدي، ولا صنعة، والداي يتكفلان بكل حاجياتي… لكن ماذا بعد عمر طويل، ماذا لو وجدتني يوما بدونهما، حتى الرجل الوحيد الذي انجذب لي يوما، من أفراد عائلتي، تراجع بسبب ثرثرة الأسرة، وتصعيب الأمر عليه”.
“ففي مجتمع يعول الأخ والأب والابن على الأنثى الموجودة في البيت، العادي عدم القبول بفتاة قد لا تلبي حاجيات هؤلاء المنزلية، ما نحتاجه في هذا البلد، هو مؤسسات شبيهة بدور الشباب نجد فيها كل ما نحتاجه للتعلم والترفيه، والتعارف فيما بيننا، نحتاج دفعة من الاهتمام، فنحن لم نختر أن نكون بدون أرجل أو أيادي، لم نختر أن نكون صمّّا، أو بكمًا… لا نحتاج إلى الشفقة، بل نحتاج إلتفاتة حقيقية غير مناسباتية، إلى الرعاية الطبية والنفسية المجانية، وإلى مؤسسات لا تزيد من شعورنا بالتهميش، بل تحترم ما نعانيه من إعاقة”، توضح المتحدثة.
التمييز المركب ضد النساء والفتيات ذوات الإعاقة
في حديث مع منصة “هن”، أكدت رئيسة المنظمة المغربية للنساء في وضعية إعاقة، سميرة بختي، أن الحديث عن النساء ذوات الإعاقة يتطلب تسليط الضوء على تحديات مركبة تجمع بين الإشكاليات التي تواجهها النساء بصفة عامة، وتلك المتعلقة بالإعاقة بصفة خاصة. وأشارت إلى أن الإقصاء من البرامج والسياسات العمومية يبقى أحد أكبر التحديات في المجتمع، مما لا يعكس فقط غياب المساواة، بل يعمق الفجوة الاجتماعية والاقتصادية، وبالتالي تُحرم هذه الفئة من حقوقها الأساسية التي تكفلها التشريعات الوطنية والدولية.
وشددت المتحدثة ذاتها على وجود معضلة مؤلمة تعكس التمييز المزدوج الذي تعاني منه هذه الفئة. فمن جهة، يواجهن التهميش المجتمعي والسياسي، ومن جهة أخرى، يُقصين من قِبل بعض الجمعيات النسائية التي يُفترض أن تدافع عن حقوق النساء بكل أطيافهن. إلا أن هذه الجمعيات، للأسف، تتجاهل قضايا النساء ذوات الإعاقة ولا تعترف بهن كنساء متساويات في الحقوق والواجبات. بل تبقى الإعاقة أو وضعية الإعاقة هي الأبرز في التعاطي مع قضاياهن، مما يجعل الجمعيات العاملة في مجال الإعاقة فقط هي المعنية بهن، وهو ما يؤدي إلى تهميشهن مرة أخرى.