إحساس بالضياع، فقدان الأمل في الحياة، خوف من المصير المجهول، رهاب، قلق، جحيم من نوع خاص… كلها أحاسيس قاسية تنتاب المصابين بداء فقدان المناعة البشرية “السيدا” منذ إدراكهم بالإصابة للوهلة الأولى، ومنهم على الخصوص النساء.
تعاني النساء المصابات بـ”السيدا” في المغرب من تحديات معقدة تتجاوز الجوانب الصحية لتشمل أبعادا اجتماعية واقتصادية ونفسية، وذلك بدرجة أكبر من الذكور، حيث يواجهن نظرة مجتمعية سلبية، ويلقى عليهن اللوم بشكل جارح وحاط من الكرامة، لا سيما وأن الصورة النمطية المعروفة عن هذا الداء ترتبط أساسا بالعدوى الجنسية، ما يجعل المصابات عرضة للوصم والإهانة.
كما تتعرض المرأة المصابة أيضا للعنف الجسدي والنفسي، وتتهم بالانحراف الأخلاقي، ما يزيد من معاناتها ويصعب حصولها على العدالة أو الحماية، خصوصا إذا تخلت عنها الأسرة بسبب المرض، وتركت بلا مصدر دخل، ما يجعل توفير العلاج أمرا في غاية الصعوبة بالنسبة إليها.
في هذا التقرير، تضع منصة “هنّ” الأصبع على الجرح، لتنقل معاناة متعايشات مع هذا الداء، وهن اللواتي أثقل التمييز كاهلهن، وقررن الخروج للبوح بما يختلجهن، علّ ذلك يسهم في تغيير الأحكام المسبقة والخاطئة، ويحد من معاناة وقودها التمييز ضد النساء والجهل بواقع الأمور.
متعايشات بوصم “متعددات العلاقات”
كانت طفلة في عمر الزهور، تعيش طفولة عادية كباقي أقرانها، تلهو مع رفيقاتها وتشاكس وتضحك ضحكات بريئة عفوية، كانت مفعمة بالطاقة الإيجابية، حالمة، مقبلة على الحياة، لم تكن تعلم ماذا يخفيه القدر لها ولا تحتسب ماذا ينتظرها، إلى أن جاء ذلك اليوم الذي أكملت فيه ربيعها الـ14، يوم أخبرتها أمها بنبأ صادم نزل كصاعقة حطمت كل طموحاتها وآمالها: “أنت مصابة بفيروس ‘السيدا'”.
سندس، تبلغ من العمر 20 سنة الآن، تحكي لمنصة “هنّ” عن صدمة حياتها التي أصبحت الآن مركز قوتها، “اكتأبت، وفقدت الأمل في الحياة، أصابني ذعر شديد، كنت في سن المراهقة، سن صعبة للغاية، حين تلقيت هذا الخبر، كنت لا أعرف أمورا كثيرة عن هذا الفيروس، وظننت أن حياتي اقتربت من نهايتها، لكنني سرعان من بحثت على الأنترنت واكتشفت معلومات جديدة، فهمت حينها أن العلاج ممكن، وأن بإمكاني التعايش والنجاة من الإصابة بالمضاعفات”.
تتذكر سندس، ابنة مدينة أكادير، كيف كان والداها مصران على أن تأخذ دواء معينا يوميا وفي وقت محدد، لم يخبراها قط بنوعية هذا الدواء ولا بدواعيه، فتارة يخبرانها أنه خاص بالحساسية، وتارة بالزكام، لم تكن تناقش كثيرا ولا تسأل، كانت تتناوله بثقة تامة وتعيش حياة طبيعية كالأطفال، إلى أن فهمت أخيرا أنه خاص بفيروس نقص المناعة البشرية، بعد أن أفصحا لها بكل شيء.
عن مصدر الفيروس، تقول سندس: “والداي مصابان أيضا وقد أصبت بالعدوى عن طريقهما، لا أعلم كيف حصل معهما ذلك، ولا أعرف هل من ممارسة جنس غير محمي خارج إطار الأسرة أم لا، فلا هما يخبرانني عن مصدر الفيروس، ولا أنا أجرؤ على الدخول معهما في هذه التفاصيل، لكنني أرى أنه من الأهون إلي أن يصيبني من زوجي المستقبلي أو من أي شخص آخر على أن أصاب به بسبب والداي.. لا بأس، فما حصل قد حصل، والحمد لله على كل حال”.
بوجه مشرق مبتسم، وقوة مصدرها الإيمان بالقدر وتقبل الوضع، ترى الشابة أن “السيدا” ليس إلا مرضا كباقي الأمراض، “لكن المجتمع لا يرحم المتعايشين، فدائما ما يظن الناس أن كل المصابين أصيبوا بسبب ممارسة الجنس، خصوصا إذا تعلق الأمر بالفتاة التي يعتبرونها ‘متعددة العلاقات’، هذا ينم عن قلة وعي هؤلاء وجهلهم بواقع الأمور، لذا أفضل أن أحتفظ بهذا السر لنفسي، وألا أصرح بالموضوع لأي كان، وإن تعلق الأمر بأقرب الصديقات إلي وأحب الناس إلى نفسي”، حسب تعبيرها.
وكذلك الحال بالنسبة لعدد من المتعايشات اللواتي يواجهن أحكام المجتمع بالصمت والكتمان، مخافة الإشارة إليهن بأصابع الاتهام الجنسي الباطل والحكم الظالم. في هذا الصدد، تقول بشرى المرابطي، الأخصائية النفسانية والباحثة في علم النفس الاجتماعي، أن ذلك من أبرز سمات المجتمع العربي والمغاربي، الذي يمارس نوعا من القضاء الجمعي على النساء في إطار ما يسمى بـ”العذرية الأخلاقية”.
تضيف الأخصائية النفسية الاجتماعية: “الخطيئة الجنسية هي خطيئة منبوذة مجتمعيا، ولأنها من أهم أسباب الإصابة بالفيروس، تكون الضحية هي المرأة، حيث تتعرض للوصم والتهم المجانية، وإن كانت قد أصيبت بالعدوى من زوجها أو والديها وأحد أقربائها دون أن تقترف أي ذنب. هي لعنة أخلاقية ستلاحقها بمجرد أن تفصح عن إصابتها للعموم، لذلك تلجأ العديدات إلى كتمان السر”.
واعتبرت أن الرجل المصاب لا يعاني من الوصم كما تعاني منه المرأة المصابة، موضحة أن الرجل “تعطى له مشروعية الخطيئة، والخيانة الزوجية، والتحرش، بمقولات كثيرا ما نسمعها حول ضعفه المزعوم أمام المرأة، وحول كونه “رجلا لا يعيبه شيء”، وغيرها من الأقوال التي تبرر الخطأ للرجال ولا تقبل أي مبرر من المرأة، في ازدواجية صارخة لا زلنا نعاني منها في القرن 21”.
بسبب ذلك، ترى المرابطي أن المعاناة النفسية للنساء تفوق معاناة الرجال المصابين، “لأن الرجل في جميع الأحوال يجد له موقعا داخل المجتمع ويستطيع أن يعيد الاندماج فيه، بينما المرأة يصعب عليها ذلك وتعيش قلقا وخوفا مستمرا من أن يكشف سرها، لأنها مهددة اجتماعيا، وإن عرفت فالوصم سيلازمها”، على حد قولها.
لكن سندس ليست كأغلب النساء، سندس القوية والصامدة ترى أنها محظوظة لأن جميع أفراد أسرتها على علم بالموضوع، لكنهم يتقبلون الأمر بكل رحابة صدر، ولا يمارسون ضدها أي ضغط، وكأنها مصابة بمرض عادي غير معد، تقول: “لم أعاني يوما من التمييز في الوسط العائلي، بل على العكس تماما، أغسل الصحون وأطهو وأصافح أفراد العائلة، الجميع يتصرفون معي بشكل عادي وطبيعي، كبارا كانوا أم صغارا. من المؤكد أن هذا ما يجعل مني قوية ومتفائلة، لكن، ومع الأسف الشديد، أعرف فتيات أخريات يعانين الأمرين مع الأقرباء، ومن المصابات من يخفين الموضوع على الوالدين أنفسهم، هذا أمر صعب للغاية…”.
ضعف التطبيب والحرمان من الشغل
تبقى سندس حذرة في تعاملها مع الآخرين مخافة انتقال العدوى إليهم، وتتجنب مشاركة الأدوات الحادة معهم، لكنها تحتفظ بهذا السر، ولا تخبر أحدا بنوعية الدواء الذي تتجرعه. كتمانها هذا لم يمنعها من البوح لـ”هنّ” بتفاصيل وضعها، لا سيما وأنها ترى أن الحديث مع الصحافة النسائية من شأنه أن يغير وضعية المصابات، ويخرجهن من مشاكل متعدد يتخبطن فيها، على رأسها الحق في التطبيب، من علاج واستشارة طبية وكشف مبكر وتشخيص مفصل ومراقبة.
تقول سندس، في هذا الصدد: “صحيح أن نظرة المجتمع إلينا مؤلمة، إلا أن الأسوأ هو عدم التمكن من العلاجات الأساسية الضرورية، وعدم القدرة على تتبع حالة الإصابة، فإصابتنا بهذا الداء المزمن تستوجب علينا مراقبة المضاعفات، والحذر، كل الحذر، من الإصابة بسرطانات أو تضرر الأعضاء الحيوية، فمجرد تناول الدواء لا يكفي، نحتاج أيضا إلى الفحص المستمر والمراقبة الدقيقة، وهذا مستحيل في مستشفياتنا العمومية”.
في هذا الصدد، تحكي سندس كيف أن العديد من المصابين ينتقلون من مناطق بعيدة جدا إلى مدينة أكادير، منها مدن في الصحراء كالعيون وبوجدور والسمارة وآسا، من أجل تلقي الفحوصات اللازمة، والتي لا تتم في كثير من الأحيان بسبب غياب الطبيب المختص، أو انشغاله. وبذلك، تدعوا سندس إلى ضرورة إنشاء مراكز استشفائية مختصة في جميع المناطق بالمملكة، وتزويدها بالمعدات اللازمة.
وتصرح سندس أن الأولوية دائما في المستشفيات العمومية للمصابين الجدد، وهذا ما يجعل القدامى ينتظرون مواعيد طويلة للقيام ببعض الفحوصات تصل إلى أشهر عديدة، توضح في هذا الصدد: “يتم الاهتمام بالجدد حتى يتناولوا الأدوية التي تناسبهم، ويخطون خطواتهم الأولى في مسار العلاج، وذلك إلى أن تستقر حالتهم الصحية ويدخل الفيروس لديهم في حالة من السكون، عندها لا يتمكنون من القيام بمزيد من الفحوصات، ويتم بعدا استقبال المستجدين، وهكذا”.
يحرم المصابون أيضا من الشغل في عدد من القطاعات العمومية، خصوصا في مجال الصحة والأمن والخدمات، وذلك مخافة انتقال العدوى إلى المرتفقين، ترى سندس أن في الأمر تمييزا كبيرا تجاه هذه الفئة، خصوصا إذا تعلق الأمر بالنساء اللواتي يزيد ذلك من هشاشتهن وعطالتهن، ويجبرهن على البقاء في حالة تبعية مادية دائمة للأسرة والأقارب.
من فاجعة الوفاة إلى ألم الطلاق
ظنت حسناء (23 سنة) من الدار البيضاء، أن طفلتها توفيت متأثرة بمضاعفات “كوفيد-19″، إلا أن الحقيقة كانت غير ذلك، فسبب الوفاة، حسب ما أكده الأطباء وفق فحوصات دقيقة، كان جراء الإصابة بداء فقدان المناعة المكتسبة “السيدا”.
صدمة الأم كانت قوية ومزدوجة، تبكي من جهة فقدان فلذة كبدها، وتعيش حالة من التوجس والحيرة من جهة أخرى بهذا النبأ المفزع، لتدرك أنها على الأرجح مصابة بهذا المرض بمعية زوجها.
بمجرد ظهور نتائج التحاليل المخبرية، كانت الصدمة كبيرة وغير متوقعة: إصابتها هي وعدم إصابة الزوج. عندها فهمت حسناء أن زوجها لم يخنها كما كانت تعتقد، لكنها في الوقت نفسه احتارت حول أسباب عدم انتقال العدوى، خصوصا وأنه من المحتمل أن تكون قد أصيبت بالداء في فترة الحمل، أي قبل سنة أو أكثر من معرفتها بالموضوع.
تحكي حسناء قصتها لمنصة “هنّ” قائلة: “معلوم أن انتقال العدوى نسبي مهما كانت الظروف، لذا أنا أفهم سبب سلامة زوجي. كنت أحرص على ألا أنقل إليه المرض، وكنا نستعمل العازل الطبي عند كل لحظة حميمية، لكنني لاحظت كيف كان يحتاط مني بشكل كبير، ويتجنب ما أمكن الاقتراب مني لضمي أو تقبيلي، أصبح ارتباطنا الجنسي ميكانيكيا، خاليا من أية مشاعر، فتدهورت بعد ذلك علاقتنا بشكل كبير”.
كان زوجها أول من تخلى عنها بسبب المرض، تقول حسناء: “بدأت أسمع منه خطابا جارحا متعاليا، كان يمن علي في كل وقت وحين، ويذكرني دائما بأنه قبل بي، وبأن لا أحد سيضحي بنفس الكيفية التي ضحى بها هو معي، ويعتبر ما قام به إحسانا لي، ورأفة بحالي، كنت أتهم أيضا بكوني خائنة، وقد أخبرني بذلك مرات كثيرة في حالات غضبه، بينما أنا لم أقِم أية علاقة جنسية خارج مؤسسة الزواج طيلة حياتها”. توالت الإهانات، فقررت حسناء أخيرا طلب الطلاق.
مرت سنتين على وفاة ابنتها وبدء العلاج، وسنة واحدة على طلاقها، ومع ذلك، لا تزال حسناء تجهل كيفية إصابتها بهذا الداء، “أشك في الإصابة بالعدوى في محل صانع أسنان، إذ كنت قبل حملي أصلح بعض الأضراس الداخلية، وقد أخطأت في اختيار هذه الخدمة غير الآمنة بمجرد توفير بضع دريهمات، لم أكن على علم بالعواقب”، حسب تعبير حسناء.
على عكس الطليق، عائلة حسناء متفهمة وواعية، حيث أن أغلب أفرادها على علم بالموضوع، الشيء الذي يعزز إيمانها بقدرها وتقبلها للوضع بقلب مطمئن، تقول: “تساندني أسرتي منذ علمهم بإصابتي، وهذا يدعمني ويجعلني أقوى، فما كنت لأكون كذلك لولا وقوفهم بجانبي، خصوصا بعض صدمات وفاة طفلتي، وإصابتي، وطلاقي”.
“تدهور الصحة النفسية للنساء”
رغم ذلك، لم تنكر حسناء تضررها النفسي بعد علمها بالإصابة ب”السيدا”، خصوصا وأن النبأ الصادم جاء مرفوقا بصدمة وفاة ابنتها ولوعة طلاقها من زوجها. تفسر المرابطي ذلك بالقول إن فقدان العلاقات الاجتماعية، وحالات تفكك الأسرة أو الطلاق، وردود أفعال الشريك والأبناء والمحيط العائلي القريب والبعيد، وحالات وفاة المقربين بهذا الداء، كلها أمور تتسبب في اضطرابات نفسية ليست بالهينة لدى المصابين، خصوصا وأنها تنضاف إلى مشاعر القلق والاكتئاب والضياع التي تلم بهم بمجرد العلم بالإصابة.
وأكدت أن “الدراسات النفسية التي أجريت على مرضى فيروس فقدان المناعة المكتسب ‘السيدا’ تتفق جميعها بأن صحتهم النفسية تتأثر بسبب هذا الداء، لأن هذا الإجهاد مرتبط بالعيش مع المرض وتداعياته، بالإضافة إلى محاولة الاندماج في المجتمع مع المعاناة من الوصم وتفكك الروابط الاجتماعية، كما يزداد الموضوع تعقيدا إذا تعلق الأمر بالنساء”.
وتابعت أن الأبحاث السريرية تشير إلى أن النساء المصابات بهذا الداء معرضات للاكتئاب مرتين أكثر من باقي النساء، بالإضافة إلى القلق والأفكار الانتحارية التي تراود البعض منهن.
وأوضحت، في هذا الصدد: “هناك قلق كبير حول مسار العلاج الطويل، والخوف من فقدان العمل، والخوف من انتشار الخبر خشية الوصم وفقدان العلاقات الاجتماعية، والخوف من حالة تفكك الأسرة والطلاق، والخوف من ردود أفعال الشريك والأبناء والمحيط العائلي القريب والبعيد”.
وبالإضافة إلى التداعيات النفسية الاجتماعية، تطرقت المرابطي إلى الاضطرابات الفيزيولوجية على مستوى الدماغ، المتعلقة أساسا بالالتهابات الانتهازية التي تؤثر على كامل الجهاز العصبي، مما يؤدي إلى تغيرات في كيفية تفكير الشخص وتصرفه، “بمعنى أن هؤلاء النساء معرضات أيضا للإصابة بهذه المشاكل إلى جانب الاضطرابات الإدراكية والخرف وهوس الاكتئاب، وبالتالي هذا يزيد من تدهور الصحة النفسية والعقلية للنساء”، حسب تعبيرها.
واستعرضت المرابطي، في هذا الباب، تقريرا لمنظمة الصحة العالمية سنة 2008، والذي يقول إن مراكز الرعاية الصحية الخاصة بهؤلاء النساء والمصابين عموما بالمرض لا يتمتعون في كثير من الأحيان بالتكوين المناسب المتعلق بالكشف عن الاضطرابات النفسية، وبالتالي يستفيدون من علاج بوبيولوجي محض ينحصر في إطار الخدمة الصحية، وهذا يجعل هؤلاء النساء يعانين في صمت، نظرا لأنهن في حاجة ماسة إلى المساعدة النفسية.
واعتبرت أن الاكتئاب والقلق هما من أكثر الاضطرابات النفسية الشائعة بين النساء المصابات، “لأن المرض بطبيعته يدفع الإنسان إلى الغوص في الماضي وتأنيب الضمير على ما اقترفه، خاصة إن كان قد قام بنشاط جنسي غير محمي، بالإضافة إلى لوم الذات وانخفاظ تقدير الذات، بالإضافة إلى التفكير في المستقبل وفي وضعه حين ستتدهور صحته وحينما يبتعد عنه اصدقاؤه وتهجره عائلته ويفقد عمله. وكل هذا مرتبط بأعراض الاكتئاب”، حسب تعبيرها.
لوم المصابة وتبرئة المصاب.. كيل بمكيالين
سميرة (28 سنة) من الصويرة، تجد نفسها، وبدون مقدمات، في اجتماع طارئ مع والديها، يسألانها فيه، بنبرة حادة، عن أسباب وتداعيات إصابتها ب”السيدا”، وما إن كانت العدوى قد انتقلت إلى ابنتها التي لم تتجاوز الرابعة من عمرها، تقول في حديثها مع منصة “هنّ”: “كنت عندها منهارة تماما، يائسة من الحياة، توفي زوجي بعد بضعة أشهر فقط، فأحسست بوحدة قاتلة، كان كنف العائلة بالنسبة لي هو السند والملاذ، لكنني سرعان ما فقدت كل شيء”.
كان الغضب يسيطر على الوالدين تماما، الشيء الذي خلق فجوة بينها وبينهما، سميرة بذلك فهمت المقصود: لم يعد مرغوبا بها في البيت. لملمت أغراضها، وبدأت رحلة البحث عن مسكن لها ولطفلتها.
“كل ذلك بسبب أختي، هي السبب!. لأنني أخبرتها بكل شيء بعد أن ألحت علي لتعرف صنف الأدوية التي أتناولها أنا وابنتي كل صباح، لم يكن بمقدوري الاحتفاظ بهذا السر في نفسي، كان ثقيلا كحجر أصم، قررت الوثوق بها، لكنني أخطأت، وأنا الآن أدفع ثمن تهوري”، تقول سميرة في حسرة.
سرعان ما انتشر الخبر كالنار في الهشيم بين أفراد العائلة، لتغزو هاتفها بعد ذلك اتصالات بالجملة، تُستهل بسؤال عن صحتها وأحوالها وكيف تعيش وتتعايش، وتنتهي بالكثير من اللوم والعتاب، الذي قد يكون مباشرا وقد يتجلى ما بين السطور، “لم يعد بمقدوري أن أواجه أعمامي وأخوالي، ولا أن أتحمل عتابهم لي، لا أعلم لما ألام أنا، بينما لم أقترف مثقال ذرة من الخطيئة، فزوجي من نقل إلي العدوى، ولست إلا ضحية لا ذنب لها في شيء”، تؤكد سميرة والدموع تملأ مقلتيها.
وتساءلت سميرة كيف لأسرة زوجها أن تكون متفهمة إلى أبعد الحدود، مقابل تخلي أسرتها هي عنها، عن ذلك تؤكد فوزية الدحماني، رئيسة الائتلاف المغربي لوقاية الشباب من الأمراض المنقولة جنسيا و”السيدا”، في حديثها مع منصة “هنّ”، التحيز المجتمعي الواضح ضد النساء في قضايا الأمراض المنقولة جنسيا، مشيرة إلى أن النساء المصابات غالبا ما يُحملن مسؤولية هذه السلوكيات المحظورة، دون إعارة الناس أدنى اهتمام بمسؤولية الرجل ودوره في تلك المواقف، تماما كما حصل في حالة سميرة.
وأوضحت الدحماني أن هذا التحيز يعكس النظرة المجتمعية التي تتساهل مع أخطاء الرجل، بينما تواجه المرأة بنعوت قاسية يسهل معها القذف في عرضها واتهامها بالانحلال الأخلاقي، في تجاهل تام لوضعيتها الصحية والنفسية الهشة.
وأضافت أن المرأة، بصفتها الأكثر عرضة للتحيز المجتمعي، تحتاج إلى دعم نفسي واجتماعي خاص لتتجاوز نظرة المجتمع الظالمة التي تلاحقها.
بحزن شديد حكت سميرة عن حالة زوجها، متحضرة كيف أصيب بالمرض، بسبب اتصال جنسي غير محمي، ما أدى إلى تدهور حالته الصحية دون تشخيص أو علاج يذكر، ليصبح جسده هزيلا عليلا، وتزداد حالته سوءا يوما بعد يوم، قبل أن يصيبه سرطان الغدد اللمفاوية، ويرديه قتيلا.
“نقل زوجي إلي العدوى عن غير قصد، وبدوري، نقلت العدوى إلى ابنتي التي كانت عندها رضيعة دون قصد أيضا، لم أكن أعرف منذ متى وكيف أصيب زوجي، لكنني متأكدة أن ذلك بسبب الجنس، فقد كان على علاقة مع فتيات كثيرات، وقد انكشف أمره في مرات كثيرة”، تضيف سميرة.
تعيش سميرة الآن في غرفة صغيرة في منزل مشترك مع جيران تتقاسم معهم المطبخ والحمام، تقول: “يحز في نفسي ألا أقدر على توفير منزل أفضل لابنتي، هذا ما في استطاعتي القيام به، فأنا أشتغل كعاملة نظافة بأجر هزيل في الفترات التي تدرس فيها ابنتي، وأستطيع توفير قوت يومنا وسداد الفواتير وثمن الايجار والمصاريف الدراسية”.
تشعر سميرة بالذنب لأنها لم تتمكن من توفير منشأ أجمل لابنتها، لتعيش فيه طفولتها بشكل طبيعي كباقي الأطفال، تقول: “أريد أن أخرج ابنتي من هذا الجحيم، وأمنحها حياة أفضل، لكنني لا أستطيع البتة الآن، وهذا يجعلني منهارة ويائسة، لكنني أحتاج إلى أن أبقى قوية، من أجل ابنتي”.
تجريم العدوى: سبيل وقائي للحد من تفاقم الآفة
وبينما انتقلت العدوى من الزوج المتوفى إلى سميرة ثم إلى ابنتهما دون قصد، هناك حالات كثيرة تنتقل فيها العدوى بشكل مقصود، حيث ترى الدماني أن الناقل المتعمد للعدوى يجب أن يخضع للمساءلة القانونية عبر تجريم هذا الفعل، بينما يجب دعم الضحايا ومدهم بالعناية لتجاوز الوصم المجتمعي، مشددة على ضرورة التفريق بين الحالتين لتحقيق العدالة الاجتماعية والصحية.
وأكدت الدحماني أنه من غير العادل أن يطال الوصم المجتمعي الناقل للعدوى تعمدا والضحية بشكل متساو، مشددة على ضرورة معاقبة من تعمد نشر العدوى وهو مصاب بوسائل قانونية رادعة، وأن يرأف الناس لحال الضحية لكونه لم يرتكب أي ذنب”، حسب تعبيرها.
وشددت الدحماني على أهمية وضع برامج وقائية وعلاجية شاملة ومتوازنة تستهدف الرجال والنساء على حد سواء، مشيرة إلى أن هذه البرامج لا يجب أن تقتصر على الجوانب الطبية فقط، بل يجب أن تشمل أيضا حملات توعية تستهدف تغيير العقليات، وكسر الصور النمطية التي تضع المصابين في موضع الاتهام.
وأكدت الدحماني أن نهج الوقاية والتربية القيمية هو الحل الأمثل لمكافحة انتشار العدوى، مشيرة إلى ضرورة دعم هذه الجهود بمقاربات حقوقية وقانونية كالتي يتم العمل عليها ضمن الائتلاف المغربي لوقاية الشباب من الأمراض المنقولة جنسيا و”السيدا”.
وأوردت أن عمل الائتلاف المغربي لوقاية الشباب من الأمراض المنقولة جنسيا و”السيدا” يشمل التنسيق مع حقوقيين وقانونيين لإعداد مقترحات قوانين مرنة ومناسبة تهدف إلى الحد من انتشار العدوى، مع التركيز على رفع مذكرات بهذا الشأن.
وأشارت الدحماني إلى أن الائتلاف يشتغل وفق عدد من المقاربات التي تهدف إلى تعزيز التوعية والتحسيس بالدرجة الأولى، وهي المقاربة التشاركية مع الهيئات الرسمية وهيئات المجتمع المدني، والمقاربة التربوية القيمية التي تعد الأكثر تأثيرا في الشباب لتعزيز الوقاية، ثم المقاربة العلمية الأكاديمية التي تهدف إلى إنتاج إحصاءات جديدة وتحليل دقيق، والمقاربة الإعلامية لنشر الوعي على نطاق واسع، بالإضافة إلى المقاربة الحقوقية الترافعية التي تدعم سياسات التجريم وحماية الحقوق.
معاناة المتعايشات: هل من حلول؟
اقترحت الأخصائية المرابطي عددا من الحلول لدعم النساء “المتعايشات”، منها على الخصوص توفير المواكبة النفسية في المراكز الصحية، عبر تزويدها بأخصائيين نفسيين وأطباء نفسيين متخصصين لمساعدة هؤلاء النساء في معاناتهن النفسية، بهدف إيجاد التوازن النفسي.
كما اقترحت المرابطي إحداث ماستر متخصص في الجامعات التي تحتضن شعبة علم النفس، يتعلق بعلم نفس الأمراض المستعصية، ومن بينها “السيدا”. مبرزة أن “هذا التخصص يهدف إلى تكوين موارد بشرية مؤهلة ومتخصصة يمكنها أن تسهم في تزويد المراكز الصحية والجمعيات المتخصصة بالكفاءات اللازمة”.
وفي السياق ذاته، طرحت المرابطي إحداث الأخصائي النفسي المدرسي والجامعي في المؤسسات التعليمية والجامعات، لمواكبة النمو النفسي للمراهقين والشباب، مشيرة إلى أن هذا الأخصائي سيقدم المشورة اللازمة في مساراتهم الدراسية والشخصية، وسيتمكن من توقع المخاطر التي قد يواجهونها.
كما شددت على دور الإعلام كمؤسسة للتنشئة الاجتماعية في رفع الوصم عن النساء المصابات بفيروس، وأشارت إلى مسؤولية المسؤولين في القطاع الإعلامي لإعداد دفاتر تحملات تعالج هذا الموضوع بجدية.
هذا ونبهت إلى ضرورة وضع قوانين حمائية تحمي النساء المصابات بفيروس “السيدا” من التنمر والوصم، وتمنع أي نوع من العنف أو الإيذاء النفسي الذي قد يتعرضن له في مسارهن الحياتي والعلاجي.
“السيدا” في أرقام
تشير آخر الأرقام التي أعلنت عنها مديرية الأوبئة ومحاربة الأمراض التابعة لوزارة الصحة المغربية أن 22.600 ألف هو عدد حالات الإصابة بداء فقدان المناعة البشرية بالمغرب، كما بلغت نسبة الانتشار 0,08 بالمائة، حيث تم تسجيل 1000 حالة جديدة، بينما تقدر عدد الوفيات بـ400 حالة سنويا. ويتمركز الداء في 4 جهات، وهي سوس ماسة، ومراكش ـ آسفي، والدار البيضاء ـ السطات، ثم الرباط ـ سلا.
أرقام ومعطيات ليست بالهينة رغم قلتها، حيث يجهل المئات إصابتهم بالداء ويستمرون في نشر العدوى دون علم، سواء عبر الاتصال الجنسي غير المحمي أو بسبب التوجه إلى صالونات التجميل والحلاقة التي لا تلتزم بتعقيم الأدوات المستخدمة مثل الملقط ومقص الأظافر وشفرة الحلاقة.