حراك عاملات وعمال معمل الجلود والأحذية، “ريتون”، الواقع بمعتمدية السبيخة، في مدينة القيروان التونسية، كشف جانبا مخفيا من “انتهاكات وضرب الحقوق المهنية والكرامة الإنسانية”، التي تمارسها إحدى الماركات العالمية الألمانية-السويسرية منذ سنوات في تونس، وفق تعبير إحدى العاملات. كما بين القدرة التي لدى المستثمر الأجنبي، بمباركة من السلط الجهوية والقضائية على حد السواء، على الضرب عرض الحائط بكل القوانين الشغلية و التمثيليات النقابية في البلاد.
ويسوّق مصنع الجلود والاحذية الألماني، بالقيروان علامة الأحذية المعروفة “ريكر” (Rieker)، ورغم ما يسعى إلى توفير لزبائنه حسب ما هو منشور على موقع الشركة من “راحة وجمالية وميزات مقاومة للإجهاد “، إلا أنه يسقط كل تلك المقومات من اعتباراته في تعامله مع عمال وعاملات أحد أهم فروعه على المستوى العالمي المتواجد في تونس.
وحسب ما أفادت جهاد (اسم مستعار)، وهي إحدى العاملات التي تم طردها من المصنع بعد الاحتجاجات التي تم خوضها، “يعتمد مصنع الجلود والأحذية بمدينة القيروان التونسية، على غرفة تغيير ملابس جماعية مشتركة، وقام باعتماد الخزانات للفصل بين العمال العاملات داخلها بعد أن رفضوا استعمالها على هذا الشكل دون مراعاة لخصوصية كل منهم، وما يمثله تقاسم الفضاء المشترك من حرج لهن”. “لا توجد مجامع صحية كافية داخل المصنع، كما أن مفتاح المرحاض الوحيد الخاص بالنساء يتملكه رئيس أو رئيسة وحدة الإنتاج داخل المصنع وتضطر كل عاملة إلى أخذه منه-ا في كل مرة تتجه لقضاء حاجتها، وأحيانًا تجابه رغبتها بالرفض أو المنع من قبلهم في العمل”، تقول جهاد.
وتؤكد على أن المعمل “لا يوفر لنا ملابس واقية مثل القفازات أو كمامات تحمينا من آثار رائحة الجلود أو المواد الكيميائية، وأساسًا الغراء (المواد اللاصقة) التي نستعملها في صناعة الأحذية، والتي تتسبب في أمراض ضيق التنفس والحساسيات وحتى في الإصابة بمرض السرطان… كما يرفض المصنع التكفل بالتغطية الصحية، وبفترات العلاج الطويلة التي يخوضها المصابون، وعند تكرر الغياب يذهب المشرف على المصنع إلى الطرد ولا يتحصل العمال أو العاملات في هذا المسار على أي حقوق تذكر”.
وبالعودة لتفاصيل الأحداث الاحتجاجية الأخيرة بالمعمل، تقول جهاد، أن المعمل “يخصص لنا حافلة تابعة للشركة الجهوية للنقل، تنقلنا يوميا من المناطق المجاورة جيئة وذهابًا، غير أنه تعذر علينا الوصول إلى المعمل منتصف شهر أكتوبر الماضي، بسبب تحرك احتجاجي وقطع للطريق. ورغم أننا قمنا بتعويض يوم العمل حسب الاتفاق المبرم بيننا وبين المسؤولين، ويقين الادارة أنه غياب خارج عن نطاقنا، قامت باقتطاع هذا اليوم من أجرنا الشهري”.
هذه الـ”مظلمة”، كانت محركًا للاحتجاج الذي خاضه عمال وعاملات مصنع الجلد والأحذية منذ يوم 18 أكتوبر 2024، وتمت خلاله المطالبة، كما تسرد جهاد، “بظروف عمل تحفظ كرامة العمال ومعاملة إنسانية تقطع مع الإهانات التي يتعرضون لها يوميا، وتضع حدًا لألفاظ التقزيم والتقليل من القيمة” التي توجه لهنّ ولهم كل فترة.
وتقول محامية العمال والعاملات ماجدة ماستور، في تصريحه لمنصة “هنَّ”، أن “إدارة المصنع تقدمت بقضية في نفس يوم الاحتجاج الذي تم تنظيمه يوم 18 أكتوبر من قبل العمال”.
وتضيف ماستور أن الشكاية “لم تكن في حق الـ25 عاملا المتابعين حاليا، بل رفعت في البداية في حق عدد قليل من العمال، ولم تشمل الكاتب العام المحلي لاتحاد الشغل آنذاك”.
وتوضح أنه ومع تقدم الأحداث والتحركات، “يبدو أن إدارة مصنع الجلود والأحذية في القيروان قد اتجهت إلى توسيع عدد الشكايات وإضافة كل من يحتج أو يطالب من العمال والعاملات بحقه؛ إلى قائمة المتابعين قضائيا”.
وأوضحت المحامية أن التحرك العمالي “شهد مسارًا تفاوضيًا بعد 10 أيام من انطلاقه، وعرف تدخل من قبل والي الجهة باعتباره سلطة إشراف ورئيس لجنة المصالحة، وكان مرفوقا بوزير الشؤون الاجتماعية، وتم التوصل إلى حل بين الجهتين تعهد خلاله الوالي بعودة العمال إلى العمل، وعدم طردهم أو الاقتطاع من أجورهم.. وكان يمكن للقصة أن تنتهي هناك بإمضاء الاتفاق بين مختلف الأطراف”.
“فعلا عاد المصنع إلى العمل مرة أخرى على أن يتم الاستجابة لمطالب العمال تدريجيا. وبعد أيام معدودات، يقوم المصنع بشكل اعتباطي بطرد 28 عاملًا وعاملةً مع دعوة 24 منه رفقة الكاتب العام المحلي للشغل الممثل للعمال للتحقيق يوم 8 و9 نوفمبر”، تؤكد المحامية.
وانتهى التحقيق حسب المحامية ماجدة مستور، “بالاحتفاظ بـ6 ممن تمت متابعتهم من قبل المصنع، واتخذ قرار متابعة 6 آخرين في حالة تقديم والبقية في حالة سراح، ووجهت للجميع تهمتان وهما تعطيل حرية الشغل والتحريض على الانقطاع من العمل”.
وحسب ذات المحامية، تواسل التعامل غير المفهوم مع عمال وعاملات مصنع الجلود والأحذية الألماني يوم 14 نوفمبر الجاري، حيث رفضت المحكمة طلب متابعة الموقوفين في حالة سراح، واصدرت حكمها بإيقاف 4 منهم بما في ذلك الكاتب العام المحلي للاتحاد الشغل، مع تأجيل النظر في القضية إلى يوم الخميس 21 نوفمبر من الشهر الجاري، وذلك رغم أن التهم المنسوبة لهم غير متوفرة في حقهم حسب ملفاتهم القضائية.
وتشدد المحامية ماجدة ماستور، على أن تدخل “الإتحاد الجهوي والمحلي للشغل بالقيروان”، كان بطلب من العمال وكان في إطاره القانون، وتثبت التسجيلات التي قدمها المصنع في حد ذاته، ومحاضر المعاينة الموجودة في ملف القضية، أن الكاتب العام المحلي للشغل لم يدخل المصنع وقام بتأطير التحرك وتهدئة العمال والحرص على عدم منع غيرهم من الالتحاق بالمصنع، مع الحفاظ على سلمية تحركهم.
ويلقى التحرك العمالي لمصنع الجلود والأحذية “ريتون”، دعمًا مدنيًا واسعًا، شمل جمعيات ومنظمات وطنية، ونشطاء وحقوقيين وفنانين ومسرحيين، وتم إصدار العديد من البيانات المساندة والمنددة لما آلت إليه المتابعات القضائية وبالصمت الذي تتخذه السلط الجهوية والمحلية هناك.
وترى مي العبيدي، المتحدثة باسم “جمعية تقاطع من أجل الحقوق والحريات”، أن ما وقع بحق النقابيين وعمال وعاملات المصنع من إيقافات ومتابعات عدلية وطرد تعسفي، “يشكل انتهاكًا لحقوقهم وتضييقًا على حرية العمل النقابي”.
وذكرت أن حقوقهم محمية باتفاقية الحرية النقابية وحماية حق التنظيم والمفاوضة الجماعية الصادرتان عن منظمة العمل الدولية، والتي تكفل حق العمال في تأسيس النقابات والانخراط فيها بحرية، وتضمن حمايتهم من أي تمييز أو عقوبات على خلفية أنشطتهم النقابية.
واضيف أنها تمثل ضربًا في النص الدستور التونسي في فصله الحادي والأربعين والذي ينص على الحق النقابي، ويعتبر حق الإضراب مضمونا.
وتعتبر العبيدي أن “هناك موجة انتهاكات واسعة للحراكات الاجتماعية واستهدافًا واضحًا للعمل النقابي، فالمتابعات القضائية شملت جميع الفاعلين الاجتماعيين، وكل من يرفع المطالب المهنية أو يندد بغلاء المعيشة أو الذي تعلقت مطالبه بانتهاك الحقوق والحريات.
وشددت المتحدثة باسم جمعية تقاطع على ضرورة احترام الحق في الاحتجاج والعمل النقابي وحرية التعبير”.
وأكدت على “ضرورة حماية النساء من ظروف التشغيل الهش والاستغلال المادي الذي يتعرضن له من مختلف المشغّلين، وتوفير جميع الظروف الملائمة لهنّ، بما في ذلك المساواة في المعاملة والمساواة في ظروف عمل آمنة تصون كرامتهنّ”.