الأمراض النادرة، الإسم قد يوحي بالقلة، لكن أثرها على من يعيشون مع معاناتها يفوق الوصف؛ فهي أمراض مزمنة، معقدة، وغالبًا غير قابلة للشفاء، رغم أنها لا تمس سوى أقل من 5 بالمائة من سكان العالم، إلا أنها تثقل كاهل ما يفوق 300 مليون شخص عبر مختلف القارات.
وفي الجزائر، ارتفع عدد الأمراض النادرة المعترف بها رسميا؛ من 26 مرضًا سنة 2013 إلى 126 مرضًا بحلول 2024، لتزداد التعقيدات ويتضاعف الثمن.
هذا الارتفاع يكشف عن فاتورة أخرى يدفعها المجتمع خفيةً: زواج الأقارب، فخلف هذه الأرقام والاحصائيات الجافة، تختبئ قصص مؤلمة وقدر لم يكن في الحسبان.
ومن بين هذه الأمراض النادرة يبرز مرض غوشيه (Gaucher Disease)، وهو اضطراب وراثي نادر ناتج عن نقص في إنزيم مسؤول عن تكسير بعض المواد الدهنية داخل الخلايا. هذا الخلل يؤدي إلى تراكمها في الكبد والطحال والعظام، مسببًا تضخم الأعضاء، فقر الدم، آلامًا مزمنة، وأحيانًا مضاعفات عصبية خطيرة.
ورغم خطورتها، يظل معظمها غير معروف على نطاق واسع، مما يزيد من معاناة المرضى الذين يجدون أنفسهم في رحلة علاج طويلة وشاقة. ووسط هذا الواقع، حيث يسهم زواج الأقارب في مضاعفة احتمال انتقال هذه الأمراض، تتحول حياة بأكملها إلى صراع يومي مع الألم.
ابتسامة تخفي سنوات من الصراع
في الأيام التحسيسية حول هذه الأمراض، التقت “هنَّ” بالسيدة نسيمة صوالح، أم لطفلين، تحمل بين يديها ملفًا طبيًا ثقيلاً وابتسامة متعبة. من يراها قد يظن أنها مجرد مريضة أخرى في رحلة علاج طويلة، لكن قصتها تتجاوز جدران المستشفى لتكشف عن مأساة عائلية عميقة.
نسيمة ليست وحدها في هذا الطريق؛ فهي واحدة من أربع شقيقات جمعتهن رابطة الدم، وفرّقتهن قسوة الأمراض النادرة. مرض واحد ورثنه عن والديهن، نتيجة زواج أقارب (الأب والأم أبناء عم)، حوّل حياتهن إلى صراع يومي مع الألم والعمليات الطبية والإرهاق النفسي.
قصتهن ليست مجرد تفاصيل طبية، بل صرخة مكتومة عن وجع متوارث، وأجساد تقاوم الفناء، وأحلام مؤجلة. ومع كل محاولة للتشبث بالحياة، تبقى ذكرى الأخت التي رحلت باكرًا، حاملة معها بعضًا من آلامهن، شاهدة على أن المرض لم يسلبهنَ الصحة فقط، بل أخذ منهن قطعة من الروح.
بداية الكابوس.. عندما كشف الطحال المنتفخ عن سر العائلة
لم تبدأ رحلة نسيمة مع المرض من خلال أعراضها هي، بل من خلال شقيقتها. تروي نسيمة أن كل شيء “بدأ عندما اكتشف الأطباء أن شقيقتي تعاني من (طحال منتفخ). بعد رحلة طويلة وشاقة من التشخيص، عرفنا أنها مصابة بمرض نادر، وطلبوا منا نحن، شقيقاتها، اجراء التحاليل، وهنا كانت الصدمة”.
كشفت التحاليل أن المأساة لم تكن فردية. ثلاث شقيقات أخريات، بينهن نسيمة، يحملن نفس المعاناة في أجسادهن، تم تشخيص نسيمة بـ”مرض غوشيه” وهو اضطراب وراثي نادر، بالإضافة إلى أمراض مناعية أخرى. لقد تحولت طفولتهن المشتركة وضحكاتهن الى قدر مشترك من الألم الذي لا ينتهي.
بالنسبة للأخوات، لم يكن المرض مجرد آلام فردية، بل كان اختباراً قاسياً للعائلة بأكملها، خاصة بعد رحيل إحداهن. “فقدت أختي بنفس المرض”، تقول نسيمة وعيناها تدمعان. هذا الفقد لم يكن نهاية قصة، بل كان جرس إنذار وتأكيد مُرعب أن (الوراثة لا تُمزح).
حياة الأخوات الباقيات تحولت إلى تتابع بين نوبات الألم، وزيارات الأطباء، والقلق المُتبادل. فكل ألم تشعر به نسيمة، هو صدى لما عانته أختها الراحلة، ونبوءة مُحتملة لما قد تمر به شقيقاتها الأخريات اللاتي يُصارعن نفس الأمراض النادرة.
10 أيام من كل شهر.. في الزنزانة البيضاء
تتنهد نسيمة بعمق وهي تروي لـ”هنَّ” وتتذكر جدول حياتها القاسي، وتقول “معرفت نكون صحيحة معرفة نكون مريضة… ومنذ بدأت معركتي الحقيقية، كان لدي موعد ثابت مع المستشفى. 10 أيام من كل شهر، أنا نزيلة في غرفة بيضاء”. هذا ليس رقمًا عابرًا، إنه ثلث حياتها قضتهُ بين الحقن والأجهزة والتشخيصات التي لا تنتهي، في رحلة بحث دائمة عن علاج او حتى تسكين”.
هذا الروتين العنيف لم يترك لها مجالاً لحياة طبيعية كما تقول. وتعبر نسيمة بنبرة حزينة أن “المرض لم يأخذ فقط طاقتي وصحتي، بل سرق مني أنوثتي”. تتوقف الكلمة عند هذا الحد لتفهم مدى الخسارة العميقة لتغيرات الجسمانية، والنفسية، وفقدان القدرة على العيش كامرأة شابة في مقتبل العم.
لم تقف المعاناة عند الجسد، بل امتدت إلى حياتها المهنية، حيث وجدت نفسها في مواجهة صعوبة كبيرة في الاستمرار بالعمل، في وقت لم يتفهم فيه الكثيرون وضعها الصحي القاسي.
أما على الصعيد الأسري، فقد دفعت ثمنًا باهظًا في سنوات أمومتها الأولى، إذ لم تعش تفاصيلها كما كانت تحلم، لأنها كانت مضطرة للتنقل المستمر بين المستشفى والمنزل، لتوازن بين علاج مرهق وطفلين يحتاجان إليها.
ورغم كل هذه الصعوبات، لم تستسلم نسيمة أمام المرض. فقد استطاعت أن تبني أسرة، وأن تتزوج وتصبح أمًا لطفلين، وعبرت بقولها “اخترت ان أكون أمًا أن أكون زوجةً”، متحدية بذلك القيود التي حاولت هذه الأمراض أن تفرضها على حياتها. بالنسبة لها، كان الحمل والولادة انتصارًا شخصيًا، ورسالة صامتة بأن الأمل يمكن أن يولد حتى وسط أقسى الظروف.
وتختم سارة قصتها بنداء هادئ ولكنه مُلِح، يتردد صداه خارج حدود غرفتها: “حكايتنا يجب أن تكون درساً”، لتبقى حكايتهن صرخةً لتسليط الضوء على النتائج الوخيمة لزواج الأقارب، خاصةً عندما يكون هناك حامل للمرض الوراثي، وضرورة التوعية بالفحص الطبي قبل الزواج لإنقاذ أجيال من المعاناة.
هذه القصة ليست فقط عن أمراض نادرة، بل عن قوة المرأة في مواجهة ما لا يمكن تجنبه، عن الصبر على الألم، والتحدي المستمر لإعادة بناء الذات بعد كل خسارة. سارة وأخواتها لم يخترن أن تكون حياتهن مُقيدة، لكنهن يصررن على أن تكون
قصتهن منارة تنير طريق الوعي والأمل لمن يأتي بعدهن.
هكذا يعمل المرض النادر المُتوارَثذ
في هذا اليوم التحسيسي، قدمت البروفيسور جنات حاكم، دكتورة الطب الداخلي بالمستشفى العمومي بئرطرارية، مداخلة أكدت فيها أن الأمراض النادرة “تُشكل تحديًا مزدوجا يتمثل في ندرة التشخيص وندرة العلاج”.
وأوضحت الدكتور أن هذه الحالات المرضية تزيد خطر انتقال الطفرات الجينية في حال زواج الأقارب، “عندما يحمل كل من الأب والأم جينا متنحيا متضررا للمرض نفسه، وإن لم تظهر عليهمَا الأعراض، فإن اجتماع هذين الجينين عند الأبناء يؤدي الى ظهور المرض”.
وخصت البروفيسور خلال مداخلتها مرض “قوشيه” باعتباره أحد أبرز هذه الأمراض. فهو اضطراب وراثي ناتج عن نقص في انزيم غلوكوسيريبروسيداز، مما يؤدي إلى تراكم مواد دهنية في الكبد والطحال والعظام وأحيانًا الجهاز العصبي.
وأشار الأخصائيين أن حالة الشقيقات هي مثال لـ”الأمراض الوراثية المتنحية، فعندما يتزوج الأقارب، تزداد احتمالية أن يحمل كل من الأب والأم جينات مُتنحية مُتضررة لنفس المرض. إذا التقى هذان الجينان في الأبناء، يظهر المرض”.
ويؤكدون على نقطة محورية: “الأمراض المناعية الذاتية والنادرة التي تعاني منها هؤلاء الشقيقات، بما فيها الحالة التي أدت لوفاة إحداهن، هي للأسف نتيجة مباشرة لهذه الوراثة. فالجينات المُتضررة تسبب خللاً في جهاز المناعة يجعله يُهاجم الجسم نفسه، ما يُفسّر تكرار الأزمات وحاجتهن الدائمة للبقاء في المستشفى”.
من جانبها، تُشدد البروفيسور مليكة قداري مختصة في طب الأطفال، على ضرورة التشخيص المبكر وكذا الفحص الطبي الوراثي ما قبل الزواج، وتعتبره خطوة أولى حاسمة لحماية الأجيال القادمة.
وتضيف: “الكشف المُبكر عن حمل الجينات المرضية هو السبيل الوحيد لكسر هذه الدائرة من المعاناة، وتجنبِ ولادة أطفال قد يُعانون من أمراض مزمنة ونادرة”.
صوت الجمعيات يكشف عن معاناة التكفل
قصة نسيمة، بكل ما فيها من ألم وقوة، ليست حالة معزولة. تؤكد السيدة بوناب، رئيسة “الجمعية الوطنية إيمان للوقاية من الأمراض الليزوزومية”، أن معاناة مرضى الأمراض النادرة “تتجاوز الألم الجسدي إلى تحديات أخرى لا تقل قسوة، أبرزها نقص التكفّل النفسي والاجتماعي وضعف الدعم المؤسسي”.
وتقول بوناب: “إن غياب الأطر الداعمة يزيد من حدة الاكتئاب والعزلة التي يشعر بها المرضى، تماماً كما حدث مع نسيمة. فالمريض لا يحتاج إلى الدواء فقط، بل إلى تكفّل نفسي واجتماعي متخصص، يراعي ظروفه اليومية ويمنحه الأمل في الاستمرار”.
وتضيف أن الجمعية الوطنية “إيمان”، تسعى منذ تأسيسها إلى حماية ومساندة مرضى الأمراض النادرة، عبر نشر الوعي المجتمعي، تنظيم حملات توعوية، ومرافقة العائلات في مسار العلاج الطويل والمعقد.
وتشدد على أن دور الجمعية لا يقتصر على التوجيه الصحي، بل يمتد ليشمل الدفاع عن حقوق المرضى والعمل من أجل إدماجهم في المجتمع بشكل أفضل.
كما تناشد الجهات المختصة والمجتمع المدني بضرورة توفير دعم شامل لهؤلاء المرضى، مؤكدة أن “علاج الروح لا يقل أهمية عن علاج الجسد في معركة الأمراض النادرة.” وتختم بنصيحة بالغة الأهمية، حيث دعت الشباب والعائلات إلى اعتماد الفحص الطبي قبل الزواج والابتعاد عن زواج الأقارب، باعتبارهما وسيلتين أساسيتين للوقاية والحد من انتقال الأمراض الوراثية عبر الأجيال.
كما طالبت نسيمة وشقيقاتها في الأخير، المجتمع والجمعيات والسلطات الصحية بتوفير المساندة النفسية والطبية المستمرة، والدعم المنزلي للعلاج، ليتمكن المرضى من مواجهة التحديات اليومية بكرامة وأمان.
لتبقى قصتها وقصص شقيقاتها، ليست مجرد حكاية عن المرض والوجع، بل هي شهادة حية على قوة الحياة الكامنة في الإنسان وقدرته على الاستمرار رغم الألم، لتكون بمثابة شمعة وعي في ظلام ندرة التشخيص والدعم.


















