فدوى المنزهي.. مغربية تركت أنوار باريس لتضيء أحلام نساء أنفكو

في أعالي جبال الأطلس، حيث تعيش القرى المغربية في عزلة قاسية، تمكنت امرأة واحدة من تغيير حياة العديد من النساء المحليات. فدوى، التي تركت وراءها حياة فارهة كانت فيها مديرةً تنفيذية في باريس، وجدت نفسها وسط الظروف الجغرافية القاسية والتقاليد الصعبة ورغبة النساء في تغيير واقعهم.

كانت باريس، بعمرانها الصاخب وأضوائها المتلألئة موطن فدوى لأكثر من تسع سنوات، وهناك، بين أروقة شركات الطاقات المتجددة وداخل مكاتبها الحديثة، كانت تعمل كمديرة تنفيذية ناجحة. لكنها لم تعد تشعر أن الحياة الباريسية الرأسمالية تتوافق مع أفكارها. فقررت فدوى أخذ إجازة من العمل والسفر إلى المغرب لممارسة رياضتها المفضلة، وهي تسلق الجبال. لم تكن تعرف في تلك اللحظة، أن رحلتها تلك ستقودها إلى حياة جديدة تمامًا.

اكتشاف أنفكو

مع كل خطوة كانت تخطوها فدوى بين جبال الأطلس، كانت تشعر بأن هناك شيئًا يربطها بهذا المكان. كان هواء الجبل البارد يتسلل إلى روحها ليوقظ فيها شغفًا قديمًا، شغفًا بحياة بسيطة لكنها مليئة بالمعاني. وبينما كانت تتجول بين الجبال، رأت لافتة مكتوب عليها “دوار أنفكو”، وهنا استرجعت ذكريات حادثة وفاة 34 طفلًا في دوار أنفكو عام 2007 بسبب الثلوج والعزلة. في تلك اللحظة بالضبط، قررت أن تعود في المرة القادمة لزيارة الدوار.

بداية المشروع في دوار أنفكو

في عام 2019، زارت فدوى دوار أنفكو. عند وصولها، بدأت تتجول بين منازل الطين المتراصة، والتقت بمجموعة من الفتيات اللواتي كن يجلسن أمام أحد البيوت. كان وجههن يحمل حزنًا دفينًا، لكنه لم يكن خاليًا من الأمل. قالت إحداهن: “نريد أن نعرف ما الذي يوجد خلف هذه الجبال. نريد أن نجرب الحياة التي نراها في شاشات التلفاز.” تلك الكلمات كانت الشرارة التي أشعلت في قلب فدوى رغبة قوية في مساعدتهن. وعدتهن أنها ستعود ومعها قافلة مساعدات، لكن إحدى الفتيات أجابتها: “نحن منذ 20 عامًا نتلقى المساعدات لكن شيئًا لم يتغير…”.  لم تكن فدوى قادرة على تجاهل ما شاهدته، لذلك وفت بوعدها وعادت للدوار سنة 2022، وقررت أن تبدأ مشروعًا يغير حياة هؤلاء الفتيات. 

تأسيس تعاونية “تسيا للنسيج” 

في البداية، لم تكن فدوى تعرف تمامًا ما يمكن أن تقدمه لهذا المجتمع القروي الذي يعاني من العزلة والتهميش. ولكن أثناء تجولها في الدوار، لاحظت شيئًا مشتركًا في البيوت: “المنسج التقليدي”. هنا ولدت فكرة تأسيس “تعاونية تسيا للنسيج”، كوسيلة لتمكين النساء وإعطائهن فرصة لتغيير حياتهن.

واجهت فدوى في البداية صعوبات كبيرة، خاصة مع تقاليد المجتمع الذكوري في الدوار. لم تكن النساء يمارسن أي نشاط مدر للدخل. تقول فدوى لموقع “هن” : “كان من الصعب إقناع الرجال بفكرة التعاونية، ولكنني لم أستسلم. بدأت بإقناع بعض الآباء وشرحت لهم فوائد مشاركة بناتهم في هذا المشروع، وأن تواجدهم في التعاونية لن يترتب عنه أي التزامات قانونية في حالة رغبتهم بالانفصال عن التعاونية”.

أيضًا، واجهت فدوى تحديات إدارية كبيرة بسبب بُعد الدوار وعدم وضوح المساطر الإدارية. كما أن الإجراءات الإدارية كانت تتطلب من فدوى مجهودًا مضاعفًا يتمثل في تجميع الفتيات والسفر إلى المدينة لإتمام هذه الإجراءات. لكنها لم تستسلم، وواصلت العمل على بناء التعاونية.

يوميات النساء في التعاونية

في منزل فدوى، حيث تم تحويل إحدى الغرف إلى منسج صغير، تجتمع النساء كل يوم لنسج أحلامهن على خيوط الزرابي. التعاونية الآن تضم 11 امرأة، وهي الطاقة الاستيعابية لمقر التعاونية. هناك، بين تلك الجدران الطينية، النساء لا يتعلمن فقط النسيج، بل اكتسبن مهارات إدارية وتسويقية، وأيضًا كيفية الاعتماد على الذات واتخاذ القرارات الجماعية.

فدوى لم تكن رئيسة لهن فقط؛ كانت معلمة، صديقة، وملهمة. في كل مرة تتخذ فيها التعاونية قرارًا، كانت تُصر فدوى على أن يكون بإجماع النساء. تقول فدوى: “أنا هنا لأساعدهن على بناء شيء يدوم، حتى لو رحلت يومًا ما“.

رابحة: قصة نجاح

رابحة، واحدة من الفتيات اللواتي انضممن للتعاونية، عاشت في دوار أنفكو منذ ولادتها. كانت حياتها، مثل حياة العديد من الفتيات في الدوار، تدور حول الأعمال اليومية التقليدية: رعاية الأبقار، الحصاد، والاعتناء بالبيت. لم يسمح لها والدها بمغادرة الدوار لاستكمال دراستها بعد إتمامها القسم السادس ابتدائي، وكان قدرها أن تعيش حياة هادئة في ظل الجبال. عندما قررت رابحة العمل في “تعاونية تسيا للنسيج”، كانت مترددة وخائفة من ردة فعل أهلها. ولكن بدعم من فدوى وبإصرارها الشخصي، استطاعت إقناعهم بأن هذه الخطوة ستكون بداية لتحقيق شيء أكبر.

لأول مرة في حياتها، خرجت رابحة من الدوار وسافرت إلى المدينة. تقول رابحة: “عندما رأيت الحياة في فاس والرباط، أدركت أن هناك عالمًا آخر خارج هذه الجبال”. تلك الرحلات القصيرة كانت كافية لتفتح عينيها على إمكانيات جديدة، وتحرك في قلبها رغبة في التغيير.

الحلم يمتد 

العمل في التعاونية لم يكن مجرد مصدر دخل لرابحة. لقد كان بوابة لحياة جديدة، حياة مفعمة بالاحتمالات. تقول رابحة: “أحسست أنني بدأت أعيش فعلاً”، وتضيف: “لم أكن أتخيل أنني سأحصل يومًا على 1000 درهم من عمل يدي. وعندما أعطيت المبلغ لأخي لشراء هاتف كان يحلم به، شعرت أنني أساهم في تحسين حياة عائلتي، وكانت تلك اللحظة هي التي أقنعت أهلي بأنني اتخذت القرار الصحيح”. لكن رابحة لم تكتفِ بما حققته في التعاونية. فمع مرور الأيام، بدأت تحلم بأن تصبح هي أيضًا ملهمة للنساء الأخريات، كما كانت فدوى لها. تحلم رابحة الآن بتأسيس تعاونيات في الدواوير المجاورة، لتساعد النساء هناك على تحقيق الاستقلالية المالية وتحسين حياتهن. تقول رابحة: “أريد أن أكون مثل فدوى، أن أساعد النساء في الدواوير الأخرى على تحقيق أحلامهن. نحن النساء في هذه المناطق نحتاج إلى دعم بعضنا البعض، وأرى أن هذا هو دوري الآن”.

تغيير حقيقي في دوار أنفكو

اليوم، وبعد مرور عامين على تأسيس “تعاونية تسيا”، يمكن القول إن الحياة في دوار أنفكو لم تعد كما كانت. الفتيات اللواتي كنَّ يعتقدن أنهن عالقات في “قرية الموت”، أصبحن الآن يرون المستقبل بعيون مليئة بالأمل. فدوى زرعت فيهن الإصرار، وجعلتهن يرين أن الحياة لا تقف عند حدود الجبال، وأنهن قادرات على كسر القيود التي فرضتها عليهن الظروف.

اقرأ أيضا

  • “تقرحت يديّ  بسبب استخراج الملح”..معاناة نساء من عمق الصحراء الموريتانية

    "تقرحت يديّ وتشققت كما أعاني من حساسية مزمنة تحت الأظافر بسبب استخراج الملح يدويا، كل هذا لأعيش أنا وأولادي حياة كريمة دون الحاجة إلى أحد"، تتحدث فاطمة (35 سنة) في تصريح خاص لمنصة "هنّ" حول عملها في استخراج الملح منذ 5 سنوات.   تحت درجات حرارة شديدة الارتفاع تحصل فاطمة على أقل من نصف دولار لقاء…

    نور عبدالدائم|

  • تحديًا للفقر والبطالة.. نساء يؤنثن عمل الذكور بتونس

    لايزال إدماج المرأة التونسية في سوق العمل ناقص للغاية، رغم أن حضور النساء في تونس موجود في كل المجالات وفي كل المهن; محاميات، طبيبات، معلمات وغيرها من المهن، لكنهن لا يشكلن سوى 30 بالمائة في سوق العمل، على الرغم من أنهن الأفضل تعليمًا بالبلاد، فهن يشكلن الأغلبية في التعليم، خاصة التعليم الجامعي، حيث يبلغ عدد…

    ريم بلقاسم|

  • “نعيش بالبركة”| نساء الأسواق.. مغربيات تكافحن لإعالة أسرهن

    "مزوجة، ولكن بحال إلى ممزوجاش، الراجل كاين، لكن منعولش عليه"، بهذا الوصف وبنبرة حزينة تحكي فاطمة، معاناتها مع زوج يعمل حارسًا للسيارات، لكن لا ترى منه وأبناءها الأربعة أي مساندة مادية، ما دفعها إلى الخروج لانتزاع "طرف ديال الخبز" حسب قولها، ومجابهة متطلبات الحياة في ظل الارتفاع المهول الذي تعرفه الأسعار في المغرب. "الوقت صعابت…

    سناء كريم|

  • واقع يؤثر على ثلاثة أرباع الشابات.. عدد الشباب العاطلين يتزايد في المغرب 

    مليون ونصف مليون شابة وشاب بالمغرب، يمثلون واحدًا من كل أربعة تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة، لا يدرسون ولا يعملون، وإذا امتد هذا النطاق إلى 35 عاما، فإن عدد الأشخاص الذين لا يدرسون أو لا يعملون؛ سيرتفع إلى 4.3 مليون، أي واحد من كل ثلاثة، في بلد يبلغ عدد سكانه 37 مليون نسمة. نشر…

    Hounna | هنّ|

  • الفيديوهات

  • “لم نتوصل بالدعم”..نساء الحوز يكشفن الوجه الآخر لإهمال ضحايا الزلزال

    يبدو أن بلدة مولاي إبراهيم بإقليم الحوز، جنوب مدينة مراكش، لن تتعافى قريبا من تبعات الزلزال الذي بعثر سبل العيش هناك، خاصة أن أغلب سكان البلدة كانوا يعيشون على نشاط السياحة الداخلية التي يجلبها ضريح مولاي إبراهيم، فالتجارة والإيواء وخدمات أخرى توفرها الساكنة، خاصة نسائها، توقفت اليوم بشكل كلي، ولا أمل يلوح في الأفق لعودة…

  • محاكمة عسكرية للمعارضة التونسية شيماء عيسى

    لم تغلق المحكمة العسكرية بعد، ملف محاكمة شيماء عيسى، المعارضة التونسية والقيادية في جبهة الخلاص الوطني، فقد تم تأجيل جلسة، محاكمتها إلى 10 أكتوبر، القادم.

  • ختان البنات موروث ملطخ بالدم

    تنتشر ظاهرة ختان الإناث بصورة كبيرة في عموم مناطق موريتانيا، إذ تحتل البلاد المرتبة الثامنة عالمياً. ويعتبر ختان البنات موروثاً وتقليداً في المجتمع الموريتاني ويهدف إلى المحافظة على عذرية البنات و"تهذيب شهوتهن" الجنسية، وفقا للمدافعين عنه بينما تشجب فئات اجتماعة أخرى في البلاد هذه الظاهرة.

  • فاطنة بنت الحسين.. أسطورة العيطة وأيقونة الفن الشعبي في المغرب

    ولدت فاطنة بنت الحسين في منتصف الثلاثينات بمنطقة سيدي بنور، التابعة لدكالة، من عائلة قروية محافظة رفضت ولوجها مجال الغناء، نظرا للسمعة السيئة التي كانت ملتصقة بـ"الشيخة" وقتها. انتقلت فاطنة إلى مدينة اليوسفية، وهناك انضمت إلى فرقة "الشيخ المحجوب"، وزوجته "الشيخة العبدية"، لتحصد شهرة واسعة وصل مداها إلى مدينة آسفي، معقل "العيطة الحصباوية"، وبعدها مدينة…

  • ناسجات الحياة.. نساء بالحوز ينسجن الزرابي بين أنقاض الزلزال

    بالقرب من مركز جماعة أسني بإقليم الحوز، اجتمعت أربع نسوة بدوار "أسلدا" ينسجن الزرابي، بحثا عن مورد رزق، في كوخ من القصب ومغطى بالبلاستيك وورق التعليب، بعد أن دمر الزلزال المكان الذي كن يشتغلن فيه، والذي كان مقرًا لـ"جمعية الدوار"، قبل أن يحوله الزلزال إلى أطلال. في البداية، تحديدًا قبل ثلاثة سنوات من جائحة "كورونا"؛…

  • منع مسيرات تضامنية مع فلسطين “دعم لجرائم الإبادة”

    🟠 منعت مسيرات احتجاجية ضد العدوان الإسرائيلي، تخليدا ليوم الأرض الفلسطيني، نهاية الأسبوع الماضي، من طرف قوات الأمن في عدد من المدن المغربية، ما خلف تنديدا واستنكارا واسعينِ من طرف المشاركين في تلك الاحتجاجات.

  • العاملات الفلاحيات هنّ الأكثر تضررا من التغيرات المناخية

    🔶تعاني الدول المغاربية منذ سنوات من الجفاف على مدار السنة ، ما فاقم نسبة الفقر عموما بهذه الدول وخاصة لدى النساء، وفقدت آلاف العاملات في مجال الفلاحة مورد رزقهن.