في أعالي العاصمة وبالتحديد في “دار عبد اللطيف” التاريخية، يجتمع عدد من الحرفيين والحرفيات في تظاهرة “قرية الحرفيين”، المنظمة من طرف “الوكالة الوطنية للإشعاع الثقافي”، التابعة لوزارة الثقافة، بمناسبة الاحتفالات برأس السنة الأمازيغية.
عند دخولك إلى دار عبد اللطيف، فإن أول شيء يلفت نظرك؛ هو تفوق حضور العارضات النساء، وما صنعته أياديهن؛ كروشيه، حلويات تقليدية، طرز، رسم، الحلي مصنوعة يدويا ومواد التجميل.
تقف العارضات من كراسيهن عند كل توجهٍ لزائر نحوهن، تقدمن عملهن وتشرحنهُ بكل فخر، وتجبن عن التساؤلات بكل اهتمام.
وبعد التحدث مع هؤلاء العارضات، كان الشيء الآخر الذي أثار انتباهنا، هو أن معظمهن يوجَدن هنا على حساب مسيرة مهنية، تخلين عنها من أجل حرفهنّ.
“استيقظت ذات يوم، وقررت أن أتوقف عن العمل. أخذت هذا القرار بعد 25 سنة عمل في مجال الصيدلة. لم أتسائل حتى كم سنة كانت تفصلني عن التقاعد، كنت فقط أدرك أنني لم أعد أريد حياة المكتب، على الرغم من الراتب الجيد الذي كنت أتقاضاه”، تخبرنا حياة.
وبعد 25 سنة من العمل، قررت حياة التوجه نحو “الكروشيه” (الحياكة أو التعقيف)، التي كانت قد تعلمته في المدرسة الابتدائية، حيث كان مدرجًا في منهج التعليم.
“لم ألمس إبرة الكروشيه منذ 20 سنة، إلى أن قررت أن أترك عملي وأن أعود إليه. وحين بدأته مجددا شعرت وكأنني لم أتوقف أبدا. الآن لا أستطيع التوقف كما ترين، فأنا أقوم بذلك حتى وأنا أتحدث معك”.
يظن البعض أن السبب الوحيد الذي قد يدفع امرأةً للتخلي عن مسيرتها المهنية هو هدف تحقيق التوافق بين العمل والحياة الزوجية، إلا أن لكل واحدة سببها الخاص.
حياة مثلا لم تتخذ هذا القرار، إلا بعد بلوغ أولادها سن الرشد، وعندما سألناها عن سبب تركها لحياتها المهنية أجابت ضاحكة: “لم أعد أتحمل الاختناق المروري”.
بطاقة نحو الاستقلالية
دلال رباح، هي الأخرى حرفية تركت مهنتها من أجل هواية صناعة الشمع والصابون، دلال كانت تعمل في المجال الصيدلي، وتروي أنها كانت صاحبة منصب وراتب جيدين إلا أنها كانت تعاني حالة قلق دائمة.
“لم أفهم في البداية لماذا كنت أشعر بالقلق، فلم تكن هناك مشاكل في العمل. أدركت بعدها أنني لم أعد أريد أن أقدم 8 ساعات من حياتي يوميا. تركت العمل بعد ست عشرة سنة بدون خطة مسبقة”.
وتضيف دلال في حديثها لـ”هنَّ”: “بعد أشهر من المكوث في البيت قررت تعلم صناعة الشمع والصابون وهي صناعة كنت أهواها من قبل، وأمارسها وحدي في المنزل… وبعد القيام بتدريب رسمي أنشأت الماركة الخاصة بي”.
الطريق نحو الحرف لم يكن معبدًا بالورود للحرفيات، حيث واجهنَ انتقادات عدة لتركهنَّ بيئة عمل مستقرة ودخل مادي منتظم.
“أمي لم تتفهم قراري في البداية، وسألتني لماذا أريد أن أترك عملاً يمتعني بدخل مادي مستقر؟”، تتذكر دلال.
“اليوم وبعد أربع سنوات من إطلاق مشروعي لا أستطيع تحقيق نفس الأرباح إلا أنني لست نادمة على قراري”، تؤكد رباح.
مثل دلال رباح تماما، يصعب على عائلة ومحيط الحرفيات تفهم قرار تركهن للعمل المؤسساتي لتكريس وقتهن لحرفهن.
فالبعض يرى نجاح المرأة في توليها مناصب عمل مهمة بدل من عودتها إلى حرف يدوية توارثت عبر الأجيال، والتي ربما، لا تتطلب أي شهادة، إلا أنه لهؤلاء الحرفيات رأي آخر.
“عندما يكون المرء شغوفًا بشيء ما، لا يستطيع تركه على الرف، وسيعود إليه عاجلا أم آجلا” ، تقول نبيلة لخلف لمنصة “هنَّ”.
نبيلة لخلف رسامة، و مترجمة سابقة، ترى أنه من المهم اكتشاف حرفة أو فن: “ألاحظ الكثير من الآباء يصطحبون أولادهم إلى مثل هذه التظاهرات. أرى أن هذا جميل لأنه يشجعهم على التعرف على مهن أخرى ولما لا اكتشاف هواية. قد تقربهم هذه الزيارات من الفن، وتجعل منهم فناني الجزائر المستقبليين”، تشرح الفنانة.
وتقول نبيلة أنها مارست الترجمة لمدة أشهر فقط قبل اختيار العيش من موهبتها: “على رغم من أن معظم هذه الحرف والفنون ليس معترفًا به في الجزائر كمهن، إلا أنني آمل أن يتغير الوضع قريبا”.
وفق دراسة قامت بها وزارة التجارة الجزائرية تعاوننًا مع “برنامج الأمم المتحدة من أجل التنمية”، فإن “النسبة الذكورية في مجال الحرف كانت تمثل 93 بالمائة في سنتي 2009-2010”.
إلا أن الدراسة ترى أن “انخفاض النسبة الأنثوية مبرر بوجود نشاط حرفي منزلي غير معلن”. ووفق دراسة لبرنامج الأمم المتحدة من أجل التنمية في 2024، “تمثل النساء 30 بالمائة من الحرفيين مقابل 7 بالمائة في 2010”.
إلى ذلك، وحسب إحصائيات حدثة لوزارة السياحة والصناعة التقليدية، ففي “الجزائر 1159265 حرفيا”، وهي إحصائيات يُتَحَصَّل عليها حسب عدد بطاقات الحرفيين التي تُقَدَّم من طرف الوزارة، والتي تسمح لحامليها بممارسة تجارة رسمية.
فن المقاومة
فاطمة الزهراء، امرأة في الثلاثينيات، خريجة مدرسة للتجارة الدولية، تحصلت حديثا على شهادة في صنع الحلويات التقليدية بعد حضورها لدورة تكوينية.
وعلى الرغم من اكتسابها لخبرة طويلة في العمل المؤسساتي، إلا أن فاطمة الزهراء، التي توشك على الهجرة إلى فرنسا ملتحقةً بزوجها ترى في هذه الحرف ورقتها الرابحة للاستقرار المادي. “أعلم أنه من الصعب على امرأة متحجبة الحصول على منصب عمل في فرنسا حتى ولو كانت تملك الشهادات اللازمة مثلي”، تقول فاطمة الزهراء لهذه المنصة.
وتطمع هذه السيدة في إنشاء مشروعها الخاص في فرنسا لصناعة الحلويات التقليدية الجزائرية: “لطالما أحببت طهي الحلويات ولا أرى في توجهي نحو هذا المجال إهدارًا لسنواتي الدراسية، بالعكس سأستفيد مما تعلمته للترويج لعملي”.
وتضيف “صحيح أن مشروعي هذا واجه الكثير من الانتقادات فالكثير يرى أنه من المؤسف أن تتخلى امرأة عن شهادتها الجامعية لممارسة حرفة تقليدية، إلا أنني أرى في هذه الحرفة فرصة للاستقلال المادي”.
وتسرد فاطمة الزهراء لـ”هنَّ”، أن صناعة الحلويات “هواية لطالما أحببتها، فلما لا أجل رزقي منها… المؤسف بالنسبة لي هو أن تواجه المرأة انتقادات شديدة ضد اختياراتها، مهما كانت، أليس الأهم أن تكون هي مقتنعة بقرارها، وأن تشعر بالإزدهار من خلاله؟”.
وفي الجزائر، هناك مبادرات عديدة تشجع الحرفيين على عرض عملهم، وتشجعهم على التوجه نحو التجارة الرسمية؛ بسبب الدور المهم للحرف في نمو الاقتصاد الوطني فلقد ساهم قطاع الصناعة التقليدية والحرف بأكثر من 360 مليار دينار جزائري في الناتج الخام الوطني الإجمالي لعام 2023.
هذا التشجيع يتزامن أيضا مع مخطط الدولة للنهوض بقطاع السياحة، حيث تعتبر الحرف التقليدية بوابة مهمة ورئيسية على تراث الوطن، لكن السؤال المطروح، هو هل سيكون مكان في هذا التشجيع لاختيارات النساء في مساراتهنّ المهنية؟.