في غرف المستشفيات وعيادات الأطباء، وبين جدران المنازل، تعيش آلاف الجزائريات معاناة صامتة مع مرض لا يزال يجهله الكثيرون، إنه مرض بطانة الرحم المهاجرة، الذي يسرق منهن أيام العمر، ويجعل من كل دورة شهرية معركة جديدة ضد الألم واليأس، بل وحتى ضد العقم، حيث لايزال الحديث عنه طي الكتمان، وكأن معاناة النساء مع هذا المرض جزء من الألم الذي يُتوقع منهن تحمله بصمت.
هذا المرض الغامض وغير المعروف بشكل كافٍ، والذي يتميز بتأخر متوسط في التشخيص يصل إلى 7 سنوات في جميع أنحاء العالم، يصيب حوالي 10 بالمائة من النساء في سن الإنجاب، ما يعادل 190 مليون إمرأة في جميع أنحاء العالم، و”حوالي 2 مليون جزائرية” حسب جمعية “إندو الجزائر”٬ وهذا يشكل مشكلة صحية عامة حقيقية تؤثر على جودة حياة النساء في جميع مراحل حياتهن اليومية، بما في ذلك الحياة الدراسية، المهنية، الرياضية، الجنسية وكذلك الخصوبة.
من المعاناة إلى الفعل الإنساني
من بين الجمعيات التي تعمل على التوعية بمرض بطانة الرحم المهاجرة، تأتي الجمعية الوطنية لمكافحة هذا المرض، والتي تضم في صفوفها نساءً يعانين من نفس المرض. هؤلاء النساء حوّلن معاناتهن إلى يد ممدودة لدعم أخرياتٍ يعانين في صمت.
“أعاني من هذا المرض منذ أن كنت في الرابعة عشرة من عمري، ومعاناتي استمرت لمدة 25 سنة. حولت الكبت الذي كنت أحمله بداخلي إلى مبادرة أساعد من خلالها غيري”، تقول آسيا بلحوسين لمنصة “هنَّ”.
وتعتبر بلحوسين نفسها “متحدثة باسم آلاف النساء المصابات بهذا المرض، وأتشارك معهن تجربتي، لأنني أعلم أن مشوار العلاج مليء بالصعوبات والعديد من النقائص في بلادنا”.
وتشير بلحوسين، إلى أن “المرأة المصابة بهذا المرض غالبًا ما تكون غير مفهومة من قبل عائلتها ومكان عملها”.
“المعاناة ليست جسدية فحسب، بل هناك أضرار نفسية كبيرة؛ أنا نفسي عانيت من عراقيل في مسيرتي الدراسية والعملية، حيث يفرض علينا التغيب لأيام عدة من كل شهر، وهو أمر غير مفهوم في الأوساط المهنية”، توضح المتحدثة.
ألم وصمود في مواجهة الجهل الاجتماعي
“عمري 34 سنة، تزوجت وأنا في الـ21 من عمري، ولدي أنجبته بعد 9 سنوات من العقم الناتج عن مرض بطانة الرحم المهاجرة… كنت أعاني من آلام لا تُحتمل، حيث اضطرّ للبقاء في المستشفى لأيام عدة، وأتناول المورفين لتسكين الألم. كما كنت أتناول المسكنات قبل الدورة الشهرية وبعدها بأربعة أيام. معاناتي لم تتوقف عند هذا الحد، فقد استقلت من وظيفة محاسبة في شركة عمومية، وظيفة يحلم الكثيرون بها، مما يثبت أن الأوساط المهنية لا تتفهم الموظفين المرضى ولا تتحملهم”، بهذه الكلمات تلخص أمينة (اسم مستعار)، قصتها مع المرض لمنصة “هن”.
ومن جانبها، تقول صابرينة، وهي شابة تبلغ من العمر 33 عامًا، “بدأت معاناتي مع المرض في سن الـ13، ولم أكن أعلم حينها أنني مصابة. كانت حالتي صعبة للغاية، الألم كان يجعلني أفقد الوعي مع القيء والإسهال. وكانت الآلام فوق الوصف، لدرجة أنني لم أكن أتعرف علي نفسي والمحيطين بي٬ كما لا أستطيع الذهاب إلى المدرسة، زرت العديد من الأطباء، لكن التشخيص كان دائمًا غير دقيق. فقط كنت أسمع منهم عبارة: ‘عندما تتزوجين، سيزول المرض’، أنا من شخّصت حالتي بعد بحث مطول على الإنترنت، بناءً على الأعراض التي كنت أعاني منها”.
وتضيف صابرينة أن المحيطون بها لم يتفهموا مرضها، بل كانوا “يعتقدون أنني أمثّل… سمعت الكثير من الجمل التي أثرت في نفسي، مثل: ‘عادي، يمكنك تحمّل الألم’، وحتى زوجي في بداية زواجنا لم يكن متفهمًا لوضعي. الآن لا أعلم ما إذا كان يجب علي البقاء هنا أو السفر للخارج للعلاج. حقًا لا أعلم ماذا أفعل!”.
“أحس كأن كهرباءً بداخلي”
ياسمين زكريا، 27 سنة، موظفة في بنك بالجزائر، تروي لـ”هنَّ”، أنها اكتشفت إصابتها ببطانة الرحم المهاجرة عندما كانت في الـ22 من عمرها، بعدما اجبرها الألم “على كسر حاجز الصمت داخل أسرتي، فواجهتهم وطلبت منهم المساعدة لإيجاد حل”.
وتقول زكريا “زرت العديد من الأطباء، وكان لكل منهم تشخيص مختلف. وفي أحد الأيام، التقيت امرأة نبهتني أنني قد أكون مصابة ببطانة الرحم المهاجرة”، مضيفةً أنه حينها “طلبت تشخيصًا بناءً على هذا الاحتمال، وبالفعل، تم تشخيصي بالتهاب عضل وغُدد الرحم، وهو جزء من بطانة الرحم المهاجرة لكنه داخلي. وبما أنني لم أعالجه بسرعة؛ انتشر المرض حتى وصل إلى القولون العصبي والمثانة”.
تتحدث ياسمين عن تجربتها مع المرض، مؤكدةً على أن “الوضع صعب جدًا”، بحيث “يختلف الناس في فهمهم لحالتي، فبينما يتفهم البعض، يتهمني الآخرون بالمبالغة ويعتقدون أنني أعاني فقط من آلام الحيض العادية”.
وتتذكر أنهم كانوا يقولون “إنني أتهرب من العمل بسبب آلام بسيطة، لكنهم لا يدركون أن الألم يبدو كأنه كهرباء في جسدي، والدورة الشهرية تزيد من حدته”.
انضمت ياسمين لجمعية “إندو الجزائر” من أجل التوعية حول المرض، مع آسيا وزميلاتها، وتعتبر أن هذا “نضالي الجديد، وأوصي كل امرأة بالكشف المبكر لتجنب المراحل المؤلمة ومنع تطور المرض”.
“تحديات صحية واجتماعية”
الدكتورة مصالي ليلى، أخصائية في أمراض النساء، توضح أن أعراض مرض بطانة الرحم المهاجرة؛ “تختلف من امرأة إلى أخرى”، لكن هناك علامات مشتركة مثل الألم الشديد وصعوبة الإنجاب.
وتؤكد على “ضرورة تكثيف الجهود في الأوساط الطبية للتعريف أكثر بالمرض والتوعية حوله، مما سيساهم في تحسين التشخيص”.
وتضيف الدكتورة مصالي من مدينة سطيف شرق الجزائر، أن “لهذا المرض تأثير كبير على الحياة اليومية، الشخصية، والمهنية للمريضات”.
وتوضح أن هذا المرض “مزمن، ولا يوجد علاج نهائي له، ولكن هناك بدائل علاجية متعددة”، مشيرة إلى أن المريضات “يحتجن إلى جهود متكاملة من عدة قطاعات، مثل الدعم النفسي، التفهم من قبل أرباب العمل، مراكز مكافحة الألم، الأطباء المختصين، مراكز المساعدة على الإنجاب، وكذلك الدعم من خلال برامج التغذية الجيدة، ممارسة اليوغا، والرياضة”.
وتسرد الدكتورة حالةً تأثرت بها هي كمختصة وهي لامرأة لم تستطع الإنجاب بسبب هذا المرض، “رغم محاولاتها مع التلقيح الصناعي الذي باء بالفشل… وبالإضافة إلى الألم المتواصل، ظهرت عليها أعراض أخرى مثل النزيف المستمر، وصعوبة التبول، والألم عند ممارسة العلاقة الزوجية مع زوجها”.
وتضيف الدكتورة، أن هذه المرأة “عانت لمدة 15 عامًا دون أن تتمكن من الإنجاب، وكانت تعيش تحت وطأة آلام جسدية ونفسية، في منطقة يُنظر فيها إلى العلاج النفسي بشكل مختلف ومن الصعب الحصول عليه”.
ويؤثر مرض بطانة الرحم المهاجرة بشكل كبير على العلاقات الاجتماعية، الأسرية، والمهنية، ويظل هذا المرض غير مرئي في الجزائر والعديد من الدول العربية والإسلامية بسبب التنشئة الاجتماعية التي تتلقاها الفتيات؛ حيث يُمنع عليهن التعبير عن آلام الدورة الشهرية أو التحدث عنها أمام الآباء، الإخوة أو الأقارب.
فالفتاة في هذه المجتمعات مطالبة بإخفاء أحد أهم الأحداث الطبيعية في حياتها، وإخفاء جميع المشاعر المصاحبة لها، على عكس الصبي الذي يُحتفل بختانه علنًا ولا يُطلب منه السكوت أو إخفاء الألم.
ومن ما يجعل هذا المرض غير مرئي أيضًا في مجتمعاتنا هو انخفاض نسبة النساء العاملات، التي تبلغ حوالي 17 بالمائة في الجزائر. ما يعني عدم وجود “صوت نسائي بارز يعبر عن هذا الواقع”، وفقاً لما تقوله الأخصائية في علم الاجتماع الكاهنة حماش.
ويمثل مرض بطانة الرحم المهاجرة معاناة صامتة تعيشها آلاف النساء في الجزائر، ويظل محاطًا بالكثير من الجهل واللامبالاة من الأوساط الاجتماعية والمهنية، رغم تأثيره الكبير على الحياة اليومية للنساء المصابات، سواء على المستوى الجسدي أو النفسي، إلا أن الحديث عنه ما مازال محدودًا.
وتجمع المصادر التي حدثتها هذه المنصة، على أن الفتاة في مجتمعاتنا تُنشأ على عدم الحديث عن آلامها الجسدية؛ خاصةً المرتبطة بالدورة الشهرية، ما يزيد من صعوبة الكشف المبكر عن هذا المرض.
وتسعى بعض الجمعيات والناشطات إلى تسليط الضوء على هذه المعاناة، من أجل تحسين الظروف التي تواجهها المريضات، سواء في العلاج أو في التفهم الاجتماعي.
ومع ذلك، ترى هذه الناشطات أن الطريق مازال طويلًا للوصول إلى الاعتراف الكامل بالمرض، ولكنهن يؤكدن على ضرورة توفير الدعم المتكامل للمصابات، ليس فقط من طرف الأطباء، بل من المجتمع بأسره.