“أشعر بالملل والوحدة في منزل كنت أحرص على أن يبقى فيه أفراد عائلتي الستة، زوجي وخمسة أبناء، كما كنت أحرص على دوام اللمة والدفء العائلي… لأجد نفسي بعد وفاة زوجي وحيدة بين الجدران، بعد أن استقل أبنائي بحياتهم الخاصة، كونوا أسرًا أخذت اهتماماتهم، إلا من بعض الزيارات النصف شهرية، وأحيانًا تكون مناسبتية”، بهذه العبرات التي يملؤها الألم، فتحت الحاجة خديجة قلبها لمنصة “هنَّ”، ومعه فتحت جرحًا عميقًا وهي تسرد معاناتها اليومية بين جدران بيتها، وسط انشغالات أبنائها، وانعدام أماكن للترفيه أو ممارسة الرياضة الخاصة بالمسنات والمسنين في المغرب.
الحاجة خديجة، التي تجاوزت الستين من العمر، كانت تعمل إطارًا في مؤسسة عمومية، تحب القراءة ومتابعة الأحداث السياسية. إلا أن كل ذلك لم يستطع ملأ الفراغ الذي صارت تعيشه. تقول: “للأسف، لم أفكر في فترة شبابي في الانضمام إلى حزب سياسي أو أي جمعية، سخَّرت حياتي للعمل ولأبنائي. كنت لا أكاد أجد وقتًا أهتم فيه بنفسي، فاستيقظت على كابوس التقاعد، وزواج الأبناء. حتى علاقاتي الشخصية أهملتها بسبب انشغالي بأبنائي، لأجد نفسي وحيدة في ظل انعدام أي ملاذ للمسنات مثلي، وأماكن خاصة للترفيه تليق بعمرهن.”
وعن سؤال “هنَّ” حول أهم هواية كانت الحاجة خديجة تمارسها، ردت بعد لحظة صمت بضحكة ممزوجة بخيبة أمل: “تصوري، نسيت كل هواياتي، لا أتذكر غير اهتمامات أبنائي. في زحمة الروتين اليومي الذي كانوا أساسه، جميل أنني أتذكر إسمي. هي مأساة حقيقية نعيشها نحن الأمهات اللواتي سخَّرن حياتهن لخدمة الآخرين. أكيد هذا واجب، لكن شخصيًا انصهرت في يوميات أبنائي، وبالمقابل دمرت علاقاتي الشخصية، لأنني أعيش وحيدة في ظل انعدام أماكن مريحة.”
ضجيج الخارج يضيّع متعة الاستمتاع بالهدوء:
بعضهن في العقد الخمسين أو الستين، كثيرات هن النساء، أمهات، عازبات، مطلقات، موظفات، وربات البيوت. ينتهي يومهن بين جدران بيوتهن، بين التسوق اليومي أو المناسباتي، في غياب أي تجمع ترفيهي عمومي ثقافي يناسب أعمارهن. كيف يمكن للحكومة، الأسرة، والمجتمع المساهمة في خلق بيئة داعمة ونشطة لهذه الفئة من المجتمع؟
فتيحة، بدورها، قالت في حديثها مع “هنَّ”: “لا مشكل مادي لدي، أعيش بشكل جيد مع زوجي، لكن رتابة حياتي اليومية تجعلني أشعر بالاكتئاب. لا أحب زيارة الأقارب بدون مناسبة، ولا أحب التطفل على أبنائي الذين تزوجوا وأسسوا حياة خاصة بهم. وحين أمتطي سيارتي وأخرج طلبًا لبعض المتعة وتغيير الروتين، لا أجد مكانًا مناسبًا. المقاهي تعج بالزبائن من كل الفئات العمرية، ضجيج، ومكالمات هاتفية بصوت مرتفع، تضيع عليَّ لحظات الهدوء التي أحاول فيها التلذذ بقهوتي أو التمتع بأكل معين.”
وتضيف المتحدثة ذاتها: “المشكلة في المغرب أن الجهات المعنية لم تنتبه يومًا للنساء في هذا العمر. للأسف، لم تلتقط أي وزيرة انشغالات ومطالب هذه الفئة. هناك غياب لأماكن عمومية تليق بهن وبظروفهن الصحية، وقوتهن البدنية، وحالتهن النفسية. دور للمسنات والمسنين شبيهة بدور الشباب التي كانت ملاذًا للشباب سابقًا.”
من جانبها، نددت “سعاد” البالغة من العمر 46 سنة في حديثها مع منصة “هن” بانعدام مبادرات حكومية تليق بالنساء. تقول: “للأسف، تعاقبت على وزارة الأسرة وزيرات، ولم تنتهِ مسيرة أي منهن بوضع برنامج حقيقي يهم هذه الفئة العمرية. إحداث مركبات عمومية مجانية أو بأثمنة رمزية تهرب النساء إليها من زحمة الحياة والمقاهي، فضاءات شبيهة بالإقامات (Auberge) في أماكن جميلة ومريحة، لكن للأسف يحتاج الوافد إليها أن يكون لديه دخل مادي مهم نظرًا لغلاء المبيت والأكل والترفيه، في غياب سياسة عمومية تراعي حقوق الأشخاص المسنين في الكرامة والإدماج الاجتماعي.”
ماذا أعدت لهنَّ الحكومة المغربية؟
سؤال وجهته منصة “هنَّ” إلى نعيمة الفتحاوي، النائبة البرلمانية عن المجموعة النيابية لـ”العدالة والتنمية”، التي أكدت على أن المرأة العاملة وغير العاملة في سن الخمسين أو بعد التقاعد، وبعد التخفف من أعباء الأبناء والعمل، يُراد لها أن تصبح منسية ومهمشة وكأن دورها قد انتهى.
وأفادت البرلمانية الفتحاوي أن المغرب استطاع خلال العقدين الأخيرين تعزيز ترسانته التشريعية الهادفة إلى ترسيخ المساواة بين الرجال والنساء على الصعيدين الشخصي والأسري، وكذلك على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وبالتالي، فإن الإصلاحات التشريعية والسياسية والاجتماعية التي شهدها المغرب على مدار عقود تعتبر دليلًا على وجود إرادة للنهوض بالمساواة بين الجنسين، وهي الإرادة التي عبر عنها الملك محمد السادس في خطابه بمناسبة عيد العرش (30 يوليوز 2022)، حيث أوضح أن: “بناء مغرب التقدم والكرامة، الذي نريده، لن يتم إلا بمشاركة جميع المغاربة، رجالًا ونساءً في عملية التنمية. لذا، نشدد مرة أخرى على ضرورة المشاركة الكاملة للمرأة المغربية في كل المجالات. وقد حرصنا منذ اعتلائنا العرش على النهوض بوضعية المرأة وفسح آفاق الارتقاء أمامها.”
وشددت المتحدثة ذاتها على وجود تحديات كبرى يجب معالجتها لتحقيق اهتمام فعلي بالنساء، التي تقف أمام معالجة المغرب لبعض مظاهر اللامساواة، وتحسين وضعية المرأة من خلال ما وفرته من الفرص للنساء للمشاركة الكاملة في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وعلى الرغم من التقدم المحرز، لا تزال هناك تحديات قائمة ينبغي معالجتها لتحقيق اهتمام فعلي بالمرأة.
وفي السياق ذاته، أشارت النائبة البرلمانية إلى أن “الممارسات الضارة لن تختفي بفعل المقتضيات القانونية والتنظيمية فقط، ما لم تكن مصحوبة بتغييرات هيكلية في المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية.”
وأضافت قائلة: “في البرنامج الحكومي 2021-2026، وضعت الحكومة إطارًا ينسجم مع رؤية تحقيق المساواة في أفق 2035 والنهوض بوضعية المرأة والولوج الفعلي للحقوق. لكن البرنامج خالٍ من أي إجراء يهم المرأة بعد الخمسين أو المرأة المتقاعدة.” وأشارت إلى أن وزارة التضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة أعدت الخطة الحكومية الثالثة للمساواة 2023-2026، استكمالًا لمكتسبات الخطة الحكومية الأولى للمساواة (2011-2016) والخطة الحكومية الثانية للمساواة (2017-2021).
بعد الخمسين تضيق الاختيارات:
زهرة وردي، عضوة المكتب الوطني لاتحاد العمل النسائي، ومنسقة المبادرة النسوية الأورو متوسطية، أبرزت أن المجتمع المغربي شهد تحولًا كبيرًا على مستوى العلاقات الأسرية والاجتماعية بفعل التطور الاقتصادي والاجتماعي والديموغرافي. خاصة بالنسبة للنساء، حيث تحول النظام الأسري من الأسرة الممتدة إلى النظام النووي، حيث ينفصل الأبناء عن الأسرة ويستقلون بحياتهم بعد متابعة دراستهم أو زواجهم أو حصولهم على عمل، فيجد الآباء أنفسهم فجأة وحيدين بعد أن كانوا منخرطين كلية في رعاية أبنائهم.
وأضافت أن هذا الفراغ والوحدانية يتسعان في فترة التقاعد، خاصة لدى النساء. فعند بلوغ سن الخمسين، تضيق اختياراتهن للخروج من هذه الدائرة. بينما يجد الرجال في الغالب بعض الانشغالات مثل التسوق، والجلوس في المقهى، أو لعب الورق مع أقرانهم، تجد بعض النساء أن هذه الفرص لا تتاح لهن، أو لا تجرؤن على القيام بها بفعل نظرة المجتمع التقليدية.
تشريع لا يستحضر المقاربة الإحسانية:
عرجت زهرة وردي في حديثها إلى غياب قاعات أو مركبات ترفيهية عمومية مخصصة لهذه الفئة العمرية، مبرزة أنه بالنظر إلى التطور المطرد في نسبة المسنين في المغرب، والتي تشكل النساء منهم 51 بالمائة حسب إحصائيات المندوبية السامية للتخطيط، وبالنظر إلى الوضعية الهشة والصعبة التي تعاني منها النساء المسنات، لكونهن أكثر تعرضًا من الرجال للإصابة بالأمراض المزمنة، وأكثر شعورًا بالعزلة، ولديهن أقل مصدر للدخل، فإن هذه التحديات تطرح اليوم مسؤولية كبيرة على الحكومة، خاصة القطاعات ذات الصلة بأوضاع النساء، مثل وزارة التضامن ووزارة الصحة، وكذلك الجمعيات العاملة في هذا المجال. هذا بالإضافة إلى ضرورة الاستجابة لانتظارات هذه الفئة من النساء عبر توفير بنية تحتية لاستقبالهن في أماكن مخصصة للترفيه، والرياضة، والتكوين، والتتبع النفسي والصحي.
وأضافت المتحدثة ذاتها قائلة: “بالرغم من التدابير التشريعية والحقوقية التي تبناها المغرب وانخرط في تفعيلها، مثل تنظيم شروط التكفل في مؤسسات الرعاية الاجتماعية، وإحداث قانون يشمل المسنين في التغطية الصحية الأساسية، وإعداد دراسة بشراكة مع المرصد الوطني للتنمية البشرية حول “وضعية الأشخاص المسنين بالمغرب”، بالإضافة إلى إطلاق حملات تحسيسية سنوية لتعزيز التضامن بين الأجيال، والاستراتيجية الوطنية لصحة الأشخاص المسنين 2020-2030 التي أعدتها وزارة الصحة، إلا أن الأهداف المرجوة من هذه المبادرات لا تظهر على أرض الواقع.”
وأكدت المتحدثة على ضرورة تطوير الإطار التشريعي باستحضار جيل جديد من الخدمات بعيدًا عن المقاربة الإحسانية، واعتماد المقاربة الحقوقية التي توظف مداخل إعلامية وتربوية وثقافية للتوعية بحاجيات المسنات والمسنين واحتياجاتهم، وكذلك انتظاراتهم.
وشددت على أن من أهم الإشكالات المطروحة عند وضع البرامج والاستراتيجيات الحكومية هو مدى استحضار تنوع انتظارات هذه الفئة من النساء، وفقًا لوضعهن الاجتماعي ومستواهن الدراسي. كما يجب أخذ المسافة الجغرافية بعين الاعتبار، بما في ذلك قربهن أو بعدهن عن المراكز والمؤسسات المختصة في العناية بالمسنين، ومدى توفر وسائل النقل والفضاءات الآمنة التي تمكنهن من التمتع بهذا الحق. لذلك، من الضروري إعداد دراسات وقاعدة بيانات شاملة تسمح بوضع برامج ملائمة تستجيب لتطلعات النساء المسنات، ومواكبة لروح العصر، مع الأخذ في الاعتبار ما قدمته هذه الفئة من خدمات ومساهمتها الكبيرة فيما حققته البلاد من تطور وتنمية.