صائدات اللؤلؤ.. صراع نساء المحار في تونس مع البحر والتحديات الاقتصادية 

في ساعات الصباح الباكر، حيث لا يزال العالم غارقًا في سباته، يبدأ عدد من النساء التونسيات رحلتهن اليومية التي تجمع بين الصبر والمثابرة، بين البحر والتعب. هؤلاء النساء، اللواتي امتهنَّ جمع المحار لعقود من الزمن، هن “صائدات اللؤلؤ” في شواطئ تونس، يعملن في مهنة قديمة ومعقدة تعكس تراثًا بحرِيًّا يمتد عبر الأجيال. ورغم ما تحمله هذه المهنة من فوائد اقتصادية، فإن عاملات المحار يعانين من ظروف صعبة تهدد استدامتها وتحد من استمتاعهن بحصاد جهدهن.

مهنة الأجداد: التقاليد التي لا تموت 

زهرة، واحدة من بين الآلاف اللواتي يحملن على عاتقهن مهنة جمع المحار، لا تعد هذه المهنة مجرد مصدر رزق، بل هي جزء من حياتها اليومية وتراث عائلتها. “منذ سن الثانية عشر، عندما تركت الدراسة، انخرطت في العمل مع أسرتي وجيراننا في جمع المحار”، تقول زهرة بكل فخر لمنصة “هنَّ”. وتضيف إنها مهنة توارثتها عن أجدادها، جلبت لها طمأنينة في البداية وبددت الكثير من أوقات حياتها، لكنها أيضًا جلبت لها أعباءً لا تنتهي.

زهرة، التي تمارس هذه المهنة منذ أكثر من ثلاثين عامًا، تُصر على القول إن جمع المحار هو “مهنتها الأساسية”، وهي مصدر دخل مستمر لها لمدة تسعة أشهر تقريبًا. 

ورغم أنها تدرك تمامًا أن قيمته السوقية تفوق كثيرًا ما يتم دفعه لها، إلا أن زهرة لا تفكر في التخلي عنها. “أعمل بها حتى الآن لأن البحر كان أكثر سخاء في السابق، وقد مكَّنني من كسب دخل جيد”، تضيف زهرة لهذه المنصة.

بين الغنى والفقر: محار يُباع بأبخس الأثمان

محار البحر ليس مجرد طعام تقليدي، بل هو منتج يُقدر في الأسواق العالمية، وخاصة في أوروبا. يمتاز المحار بمحتواه الغني من الكالسيوم والفوسفور والزنك، ويعتبر من الأطعمة الفاخرة التي تقدمها المطاعم الراقية. إلا أن الواقع يختلف تمامًا عند مستوى الشواطئ التونسية. 

فبينما يصل سعر المحار في الأسواق الأوروبية إلى أسعار باهظة، لا يتجاوز سعره لدى السماسرة في تونس 5 دنانير للكيلوغرام، أي ما يعادل 1.5 يورو. أما في الأسواق المحلية، فتتراوح أسعاره بين 15 إلى 40 دينارًا (بين 5 و 13 يورو)، وهو فارق شاسع يعكس استغلالًا واضحًا للعمالة النسائية.

الجمّاعة، كما يُطلق عليهن، لا يحتجن سوى لأدوات بسيطة: منجل، قفازات، سطل، وحذاء بلاستيكي. ومع ذلك، تتطلب المهنة الكثير من الجهد البدني والتحمل، حيث يقضين ساعات طويلة تحت حرارة الشمس أو في المياه الباردة والمستنقعات المالحة.

العمل وسط البحر: تحديات وصبر لا ينتهي 

النساء العاملات في جمع المحار ينطلقن باكرًا في ساعات الفجر، حيث يبدأ العمل عند الساعة الثالثة صباحًا، ويستمر لساعات طوال تحت ظروف قاسية. “نحن نعمل لمدة ست إلى سبع ساعات يوميًا، في البحر أو على الشاطئ، ولا نملك ترف الراحة في أيام العطل أو العواصف”، تقول زهرة. يفتقر معظم العاملات إلى المعدات اللازمة، حيث تقتصر أدواتهن على أبسط الأشياء، ومع ذلك لا يتوقفن عن العمل لأنهن يعرفن أن النجاح في جمع المحار يحتاج إلى صبر وتضحية.

ولكن منذ السنوات الأخيرة، أصبح البحر أقل سخاءً. وتوضح زهرة لمنصة “هنَّ”، أنه “في الماضي كان بإمكاني كسب ما بين 50 و80 دينارًا يوميًا، لكن البحر أصبح أقل إنتاجًا. وهذا ما دفع العديد من النساء للبحث عن فرص أخرى، خاصة في القطاع السياحي”.ومع تدهور الوضع البيئي، أصبح التلوث البحري أحد العوامل التي تزيد من صعوبة العمل.

التلوث البحري: تهديد الحياة والرزق

تشير زهرة إلى أن التلوث البيئي في البحر أصبح يشكل تهديدًا مباشرًا لمهنتها. “في كثير من الأحيان، نضطر إلى تغيير مواقعنا للعمل بعيدًا عن مكان سكننا، مما يجعلنا في مواجهة مع بيئة غير صحية”، وتشير إلى أن التلوث لا يؤثر فقط على المحار الذي يتم جمعه، بل يهدد صحة العاملات، فـ”أحيانًا لا نستطيع العمل في بعض المناطق بسبب تلوث البحر، وهذا يعوق رزقنا”.

استغلال ضعف العاملات

إلى جانب التلوث، تواجه العاملات تحديات أخرى في حياتهن اليومية، مثل وسائل النقل غير الآمنة. فغالبًا ما يتم نقلهن في شاحنات تبريد غير مؤهلة، حيث تفتقر إلى التهوية اللازمة. 

“في الصيف، نكون في مواجهة مع شاحنات شديدة الحرارة، وفي الشتاء نُجبر على تحمل البرد القارس”، تؤكد زهرة، مضيفة أن الوسيط غالبًا ما يكون هو المستفيد الوحيد من عملهن الشاق.

ومنذ سنوات، خاضت عاملات المحار العديد من الاحتجاجات للمطالبة بحقوقهن. كانت مطالبهن تتركز في توفير وسائل نقل آمنة، وحصولهن على تأمين صحي واجتماعي، بما يضمن لهن حياةً كريمة في حال تقدمن في العمر وأصبحن غير قادرات على الاستمرار في العمل. إلا أن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للعاملات لم تتغير بشكل جذري حتى اليوم.

ورغم التحديات الكبيرة التي تواجهها عاملات المحار في تونس، فإنهن لا يزلن متمسكات بمهنتهن التي توارثنها عبر الأجيال. ورغم الأوضاع الصعبة، لا زالت هذه المهنة توفر مصدر دخل ثابت لآلاف النساء على امتداد السواحل التونسية.  ومع ذلك، تبقى الحاجة إلى دعم الحكومة والمجتمع المدني لتوفير شروط عمل أفضل، وزيادة الوعي بأهمية تحسين أوضاع هؤلاء النساء اللواتي يمثلن جزءًا مهمًا من تاريخ وثقافة تونس.

اقرأ أيضا

  • واقع يؤثر على ثلاثة أرباع الشابات.. عدد الشباب العاطلين يتزايد في المغرب 

    مليون ونصف مليون شابة وشاب بالمغرب، يمثلون واحدًا من كل أربعة تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة، لا يدرسون ولا يعملون، وإذا امتد هذا النطاق إلى 35 عاما، فإن عدد الأشخاص الذين لا يدرسون أو لا يعملون؛ سيرتفع إلى 4.3 مليون، أي واحد من كل ثلاثة، في بلد يبلغ عدد سكانه 37 مليون نسمة. نشر…

    Hounna | هنّ|

  • متابعات وطرد وانتهاكات.. أحذية “ريكر” الألمانية معفرة بعرق وحقوق التونسيات 

    حراك عاملات وعمال معمل الجلود والأحذية، "ريتون"، الواقع بمعتمدية السبيخة، في مدينة القيروان التونسية، كشف جانبا مخفيا من "انتهاكات وضرب الحقوق المهنية والكرامة الإنسانية"، التي تمارسها إحدى الماركات العالمية الألمانية-السويسرية منذ سنوات في تونس، وفق تعبير إحدى العاملات. كما بين القدرة التي لدى المستثمر الأجنبي، بمباركة من السلط الجهوية والقضائية على حد السواء، على الضرب…

    ريم بلقاسم|

  • موسم جني التمور في تونس: فجوة في الأجور يُقابلها غياب فرص العمل

    تُكابد العديد من النساء المزارعات والفلاحات في تونس الاستغلال الاقتصادي لهنّ والتمييز القائم على النوع الاجتماعي من خلال فجوة الأجور وعدم المساواة بين الجنسين، يُنقلن في سيارات الموت من أجل مورد رزق لا يُلبّي احتياجاتهن الصحيّة واليومية، يتقاضين أجورا زهيدة على عمل شاقّ ومهدّد جرّاء التغيرات المناخية. كلّ هذه العوامل القاسية زد عليها التمييز المجحف…

    يسرى بلالي|

  • “نعيش بالبركة”| نساء الأسواق.. مغربيات تكافحن لإعالة أسرهن

    "مزوجة، ولكن بحال إلى ممزوجاش، الراجل كاين، لكن منعولش عليه"، بهذا الوصف وبنبرة حزينة تحكي فاطمة، معاناتها مع زوج يعمل حارسًا للسيارات، لكن لا ترى منه وأبناءها الأربعة أي مساندة مادية، ما دفعها إلى الخروج لانتزاع "طرف ديال الخبز" حسب قولها، ومجابهة متطلبات الحياة في ظل الارتفاع المهول الذي تعرفه الأسعار في المغرب. "الوقت صعابت…

    سناء كريم|

  • الفيديوهات

  • “لم نتوصل بالدعم”..نساء الحوز يكشفن الوجه الآخر لإهمال ضحايا الزلزال

    يبدو أن بلدة مولاي إبراهيم بإقليم الحوز، جنوب مدينة مراكش، لن تتعافى قريبا من تبعات الزلزال الذي بعثر سبل العيش هناك، خاصة أن أغلب سكان البلدة كانوا يعيشون على نشاط السياحة الداخلية التي يجلبها ضريح مولاي إبراهيم، فالتجارة والإيواء وخدمات أخرى توفرها الساكنة، خاصة نسائها، توقفت اليوم بشكل كلي، ولا أمل يلوح في الأفق لعودة…

  • محاكمة عسكرية للمعارضة التونسية شيماء عيسى

    لم تغلق المحكمة العسكرية بعد، ملف محاكمة شيماء عيسى، المعارضة التونسية والقيادية في جبهة الخلاص الوطني، فقد تم تأجيل جلسة، محاكمتها إلى 10 أكتوبر، القادم.

  • ختان البنات موروث ملطخ بالدم

    تنتشر ظاهرة ختان الإناث بصورة كبيرة في عموم مناطق موريتانيا، إذ تحتل البلاد المرتبة الثامنة عالمياً. ويعتبر ختان البنات موروثاً وتقليداً في المجتمع الموريتاني ويهدف إلى المحافظة على عذرية البنات و"تهذيب شهوتهن" الجنسية، وفقا للمدافعين عنه بينما تشجب فئات اجتماعة أخرى في البلاد هذه الظاهرة.

  • فاطنة بنت الحسين.. أسطورة العيطة وأيقونة الفن الشعبي في المغرب

    ولدت فاطنة بنت الحسين في منتصف الثلاثينات بمنطقة سيدي بنور، التابعة لدكالة، من عائلة قروية محافظة رفضت ولوجها مجال الغناء، نظرا للسمعة السيئة التي كانت ملتصقة بـ"الشيخة" وقتها. انتقلت فاطنة إلى مدينة اليوسفية، وهناك انضمت إلى فرقة "الشيخ المحجوب"، وزوجته "الشيخة العبدية"، لتحصد شهرة واسعة وصل مداها إلى مدينة آسفي، معقل "العيطة الحصباوية"، وبعدها مدينة…

  • ناسجات الحياة.. نساء بالحوز ينسجن الزرابي بين أنقاض الزلزال

    بالقرب من مركز جماعة أسني بإقليم الحوز، اجتمعت أربع نسوة بدوار "أسلدا" ينسجن الزرابي، بحثا عن مورد رزق، في كوخ من القصب ومغطى بالبلاستيك وورق التعليب، بعد أن دمر الزلزال المكان الذي كن يشتغلن فيه، والذي كان مقرًا لـ"جمعية الدوار"، قبل أن يحوله الزلزال إلى أطلال. في البداية، تحديدًا قبل ثلاثة سنوات من جائحة "كورونا"؛…

  • منع مسيرات تضامنية مع فلسطين “دعم لجرائم الإبادة”

    🟠 منعت مسيرات احتجاجية ضد العدوان الإسرائيلي، تخليدا ليوم الأرض الفلسطيني، نهاية الأسبوع الماضي، من طرف قوات الأمن في عدد من المدن المغربية، ما خلف تنديدا واستنكارا واسعينِ من طرف المشاركين في تلك الاحتجاجات.

  • العاملات الفلاحيات هنّ الأكثر تضررا من التغيرات المناخية

    🔶تعاني الدول المغاربية منذ سنوات من الجفاف على مدار السنة ، ما فاقم نسبة الفقر عموما بهذه الدول وخاصة لدى النساء، وفقدت آلاف العاملات في مجال الفلاحة مورد رزقهن.