خلف أكوام من القفاطن المطرزة والجلالب الملونة المستعملة، تجلس نساء جمعهن شظف العيش، يفترشن الأرض وينتظرن ظهور السائحات الأجنبيات أو المغربيات الباحثات عن ضالتهن في بضاعة عتيقة بعيدا عن غلاء أسعار المحلات الفارهة.
سامي صبير/هوامش
بابتسامة خجولة تستقبلنا نعيمة، الأرملة السبعينية، التي تلخص قصتها في حديث لمنصة هوامش، “أمضيت حياتي بكاملها في هذا السوق، كان في السابق مخصصا لبيع الصوف والزرابي، وبعد تراجع الطلب عليها أصبح مكانا لبيع الملابس النسائية المستعملة، ولكن الإقبال على هذه البضائع تراجع بدوره في السنوات الأخيرة”.
تقضي النسوة معظم يومهن في سوق الغزل بالمدينة العتيقة لمراكش، يجلسن تحت سقف من القصب والتراب تسنده دعامات حديدية وأعمدة إسمنتية تظهر عليها شقوق خلفها الزلزال الذي ضرب المغرب شهر شتنبر من العام الماضي، يتجاذبن أطراف الحديث وخلف كل واحدة منهن قصة معاناة وكفاح من أجل الحصول لقمة عيش لإعالة أسرهن.
منذ أربعة عقود تتردد نعيمة على السوق، تشتري الملابس وتعيد بيعها بعد إضافة هامش ربح بسيط يتراوح بين 5 دراهم و30 درهما، تقول “تطلقت قبل 25 عاما، تحملت مسؤولية فتاة تبلغ 7 سنوات وطفلا لا يتجاوز من العمر السنة، وهذا العمل هو مصدر الدخل الذي نعيش منه”، وتضيف “نحن لا نتوفر على أجرة شهرية، نقضي أيامنا كل يوم ورزقه، أحيانا أتمكن من توفير مصاريف العيش والكراء وأحيانا أخرى يتعسر علي الأمر”.
من بيع العبيد إلى ملجأ لنسوة يبحثن عن لقمة عيش
لا تختلف قصة نعيمة عن قصص باقي نساء سوق الغزل إلا في تفاصيل قليلة، بجانب المرأة السبعينية تجلس عزيزة أم لخمسة أبناء، نقش الزمن خطوطه على بشرة وجهها القمحية، تقول لهوامش “ترجع تسمية هذا السوق إلى نشاط بيع الصوف الذي كان يشتهر به، وقبل ذلك بسنوات طويلة يحكى أنه كان سوقا لبيع العبيد”.
وبهذا الخصوص أورد الباحث الأكاديمي رحال بوبريك، في دراسة تحمل عنوان “سوق العبيد: تجارة الرق في مغرب القرن التاسع عشر”، أن تجارة العبيد في مراكش بلغت أوجها في سنتي 1889 و1890، حيث “بلغت نحو 8000 عبد في السنة”.
وذكر الطبيب الفرنسي، أدولف مارسيت، في مذكراته أنه خلال زيارته لمراكش، عاين عملية بيع العبيد التي كانت تتم خلال أيام الأربعاء والخميس والجمعة من كل أسبوع، وكانت تتم هذه العملية في ساحة مربعة الشكل، وهي الساحة نفسها التي كانت تستعمل في الأيام الأخرى لبيع مختلف السلع وبالأخص الصوف.
ويصف أدولف مارسيت، المشهد “كل دلال يقود ثلاثة إماء، واحدة في المقدمة تقود الأخريات اللواتي يتبعنها من الخلف، هكذا كانوا يطوفون من دون توقف في ساحة السوق، عارضين بضائعهم، باحثين عن زبائن”.
في الوقت الحاضر أصبح السوق عبارة عن ملجأ للأرامل والمطلقات والنساء اللواتي يتحملن مسؤولية إعالة أسرهن، يبحثن فيه على مورد رزق يعينهن على مصاريف الحياة التي أخذت تثقل كاهلهن مع ارتفاع الأسعار وغياب السند.
على مقربة من الباب المقوس للسوق، والذي يبلغ عرضه قرابة المترين، تجلس عزيزة، كحال باقي النساء تعرض بضاعتها البسيطة التي هي عبارة عن ملابس نسائية مستعملة، تنتظر ما يحمله لها يومها، فتارة تتمكن من إقناع زبونة بشراء قميص بثمن يغطي مصاريف اليوم، وتارة تغيب الشمس دون أن تنجح في بيع ولو قطعة واحدة.
تحكي عزيزة “تقصد النسوة المعوزات أو اللواتي تعانين من ضائقة مالية هذا السوق، لبيع مقتنياتهن من الملابس القديمة. منهن من تعرض ما بحوزتها على الزبائن بنفسها، ومنهن من تفضل بيعها لنا بالجملة”.
وتضيف محدثتنا، ‘”أمضيت في هذا المكان قرابة 36 سنة، من هنا استطاعت العديد من النساء من رعاية أبنائهن والإنفاق عليهم من مدخول هذا السوق”.
نساء يكافحن لإعالة أسرهن
على بعد خطوات قليلة من عزيزة جلست خديجة، وهي مطلقة تبلغ من العمر 66 سنة، فوق حصير رث يغطي منضدة خشبية، وتحيط بها قفاطين مطرزة بألوان مختلفة. تضع نقابا شفافا أسود، يقيها من شمس شهر غشت الحارقة.
المكان يبدو مثل متحف لعرض الأزياء التقليدية القديمة، تقول خديجة بأسى، “أبيع القفطان والقمصان والأواني النحاسية، قضيت نحو 30 سنة في هذا المكان أجني لقمة عيشي، في السابق كانت تكلفة العيش أرخص أما اليوم فالأسعار ارتفعت”، وتضيف “أبدأ يومي من الساعة السابعة صباحا إلى حدود الثامنة مساء، رغم قلة ما أجنيه إلا أن هذا الوضع أفضل بالنسبة لي من العمل كخادمة في البيوت”.
تشتكي عزيزة كحال باقي نساء سوق الغزل من تراجع الطلب على بضائعهن، مقابل ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية، خصوصا بعد جائحة كورونا.
وكشف تقرير رسمي للمندوبية السامية للتخطيط، أن 17 في المائة من الأسر المغربية البالغ مجموعها 8 ملايين ونصف مليون، تعيلها نساء، وتمثل النساء المطلقات والأرامل 14 في المائة من النساء المغربيات.
وأشار تقرير المندوبية، بشأن وضعية سوق الشغل في الفصل الثاني من السنة الجارية، إلى ارتفاع البطالة في صفوف النساء مقارنة بالسنة الماضية، حيث بلغ 17.7 في المائة، وذلك أمام ارتفاع الأسعار خلال شهر يونيو الماضي، بنسبة %0,4 مقارنة مع الشهر السابق؛ وقد نتج هذا الارتفاع عن تزايد الرقم الاستدلالي للمواد الغذائية بـ 0,5%، وتزايد الرقم الاستدلالي للمواد غير الغذائية بـ %0,3.
كما أكد نفس المصدر بأن عدد الفقراء وفق آخر البيانات قد عرف ارتفاعا من 623 ألفا سنة 2019 إلى 1.42 مليون، وذلك بمتوسط ارتفاع سنوي بلغ 72.5 بالمائة.
وأوضح المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي في تقريره السنوي الأخير أن ارتفاع الأسعار، لا سيما أسعار المنتجات الغذائية، أثر بشكل أقوى على الأسر ذات الدخل المحدود نظرا لكون هذه المنتجات تحتل مكانة أكبر في سلة استهلاكها مقارنة بالفئات الميسورة.
*ينشر هذا التقرير نقلاً عن منصة “هوامش“