“لم أبحث عن زوجي الذي فر هاربا من مسؤولية طفلين صغيرين، ووالدته المريضة بالسكري، لا وقت لي لذلك، فقد انشغلت بالبحث عن قوت يومي لهذه الأفواه المفتوحة، وعن ثمن كراء البيت الذي يأوينا مخافة طردنا منه، ولادي لي مقسحين، أحيانا لا أستطيع أن أوفر لهم أي طعام طيلة اليوم، يبكون منحرقة الجوع، فأشعر بالعجز أمام احتياجاتهم البسيطة جدا”.
هكذا افتتحت “دنيا” المنحدرة من منطقة ويسلان نواحي مدينة مكناس بالمغرب، حديثها لمنصة “هنَّ” مشاركةً حزنها، وقلة حيلتها، بعد أن ضاقت بها سبل الحياة، وانتهت محاولاتها الصمود أمام الفقر، والمسؤولية.
“دنيا”، امرأة عاشت اليتم مرتين، بعد وعيها بأنها ليست من صلب الأسرة التي تعيش في كنفها، وبعد وفاة والديها بالتبني، لتجد نفسها مرة ثالثة وحيدة في مواجهة المجهول، وهي التي توقعت بعد قصة حب وهي في الـ19 من العمر، والذي توج بالزواج، أن حلم الاستقرار، وتأسيس بيت وأسرة، تحقق أخيرا، لتستيقظ على كابوس هروب الزوج من البيت تاركا لها مسؤولية طفلة لا يتجاوز عمرها السنتين، وطفلا يقارب عمره سبع سنوات، ووالدته المريضة، وكومة من الديون.
فرحة لم تنتهي
دنيا، شابة في الثلاثين من العمر، هي واحدة من السيدات “المعلقات” بعد أن عجز أزواجهن عن تأمين متطلبات الحياة الأساسية والضرورية، فقرروا التنصل من المسؤولية بشكل كامل، بهجر بيت الزوجية، والاختفاء إلى وجهة غير معلومة.
بنبرة صوت تخفي ألما دفينا، ودموع أبت الترفع، والمكابرة أمام ضغوط الحياة اليومية تحكي دنيا قصتها لمنصة لهن، تقول: “بعد علاقة جمعتني به، تزوجنا، وعشنا مع والده في حي صفيحي، لكن شاءت الأقدار أن يسجن زوجي بسبب تعاطي المخدرات، وبعد خروجه، طردنا والده من البيت، لتصحبنا والدته، اكترينا منزلا صغيرا بقيمة 900 درهم، في محاولة لتأسيس حياة جديدة، لكن الحياة لم تمنحنا الوقت الكافي للعيش في رغدها”.
وفرت الأم، والزوجة التي كانت تعمل كخادمة في البيوت بعض المال، فيما لجأ زوجها للإقتراض من أجل اقتناء “كروسة” وبيع السمك، في محاولة لترميم هذه الأسرة البئيسة التي وجدت نفسها بين عشية وضحاها تنام على الحصير، في بيت لا رائحة فيه للطعام.
بعد حين، استطاع الزوج الولوج إلى عالم التجارة، كبائع متجول بمنطقة ويسلان، كانت الأسرة تعيش على حافة الفقر، إلا أن حملة محاربة الباعة المتجولين بمنطقة ويسلان بمكناس، وحجز كل شيء، أسقطها من تلك الحافة إلى قعر الفقر والحاجة مرة أخرى.
الحياة تحولت إلى جحيم
“ساد التوتر في البيت بعد ضياع مورد الرزق، ضاع رأس المال الذي كنا قد اقترضنا بعضا منه، مما حول حياتنا إلى جحيم حقيقي، حاول زوجي البحث عن عمل آخر، لكن دون جدوى..، فقرر يوما الهروب منا، تخلى عنا إلى وجهة غير معلومة، سألت عنه بعض أبناء أعمامه في البداية الذين شاهدوه يوما في منطقة قريبة من ويسلان، ومع مرور الوقت انشغلت بالبحث عن ما أسد به جوع أبنائي، ووالدة زوجي المريضة، والتي تساعدني في العناية بهما”، تقول الزوجة.
حينئذ باعت دنيا بعض الأثاث الذي كانت قد اشترته حديثا بعد عمل زوجها، لتعود إلى الحصير، وذكريات بئيسة تقظ مضجعها، وخوف من عدم توفير أجرة البيت الذي تكتريه لتجد نفسها، وإبنيها في الخلاء صحبة القطط، والكلاب الضالة.
وبالرغم من موقف الزوج “الجبان” الذي هرب من البيت، لا تتحدث عنه “دنيا” بسوء، بل تبرر هروبه بأنه وجد نفسه عاجزا عن الوفاء باحتياجات الأبناء فاختار الابتعاد لكي لا يبقى عالة على الأسرة.
حالة دنيا، هي واحدة من قصص نساء التي تجدن أنفسهن بدون سبق إنذار أمام مسؤولية أكبر منهن، خصوصا النساء اللواتي لم تتوفقن في الدراسة، وليست لديهم أي شهادة للعمل، ليقبلن بأي عمل، وبأي مبلغ كان لإطعام أفواه لا ذنب لهم.
تشتغل دنيا كمساعدة لامرأة مسنة، مقعدة، تستيقظ في وقت مبكر، تاركة طفليها في رعاية والدة زوجها التي تعاني من مرض السكري، ولا تعود إلا في المساء، وأحيانا قد تظل مع السيدة المقعدة إلى وقت متأخر من الليل.
تعمل دنيا بشكل يومي، من الصباح، إلى المساء، بمبلغ شهري لا يتجاوز 500 درهم، تقول:” لم أجد أي عمل آخر، لذلك قبلت الاعتناء بسيدة مسنة، مقعدة مقابل مبلغ زهيد جدا، لا يكفي سد رمق أطفالي، لأجدني محاصرة بالديون شهريا، رغم مساعدة بعض المحسنات، والمحسنين”.
ورغم قلة ذات اليد، لا تستفيد دنيا ولا والدة زوجها من الدعم الاجتماعي المخصص للأسر المعوزة، ففي حالة والدة زوجها، يستفيد الزوج، وبخصوصها لم تستطع استكمال الإجراءات، وجمع الوثائق لضيق وقتها، خصوصا مع صعوبة المسطرة.
الفقر ودماثة الخلق
بعد أن استحال عليها تلبية حاجيات أسرتها، ووجدت نفسها في دوامة الاقتراض “الكريدي”، لجأت دنيا إلى طلب المساعدة، طرقت أبواب الجمعيات المتواجدة بمنطقتها على قلتها، توسلت عبر الإعلام من أجل إنقاذ أطفالها، لا تطلب المال، فالأبناء في حاجة إلى الأكل، واللباس، والتعلم، خرجت بوجه مكشوف أمام الملأ موجهة نداءها للمحسنات، والمحسنين، عسى أن تجد عملا أفضل يوفر بعض العيش الكريم لأسرتها، أو مساعدة عينية لتأمين قوت أبنائها.
تقول بحزن: “من أجل أبنائي، توسلت عبر الإعلام بمساعدتنا، ووضعت رقم هاتفي من أجل التواصل مع المحسنين، أو من يساعدني على عمل بأجر يحميني وأسرتي، لكن الذي حدث، أن رجلا اتصل بي يوما وعرض علي المساعدة بمبلغ 2000 درهم، فأخبرته لو كان يشك في كلامي، من الممكن أن يرسل الطعام لأبنائي عوض المال، لكنه أصر أن يساعدني بذلك المبلغ بشكل شهري، لكن مقابل أن أقدم له نفسي، وشرفي”.
بعد صمت، سالت دموع حاولت دنيا كبتها، ثم استرسلت قائلة: “لم أكن أتوقع أن يقايضني أحد بجسدي مقابل سد جوع أطفالي، أنا أكُد من أجل أبنائي”.
ورغم كل الأذى الذي خلفه اختفاء زوج دنيا إلا أنها تبدو متعاطفة معه، في حديثها لمنصة “هنَّ” بررت تصرفه بقلة حيلته، وهو الذي حاول العيش بكرامة من خلال التجارة في بيع السمك، إلا أن الحجز على السلعة، وضياع رأس المال، جعلاه يائسا من الحياة ككل، خصوصا أنه “صار عالة علي بعد بحث مضنٍ عن عمل جديد لكن بدون فائدة”.
السياسات الحكومية
الوضع الذي تعيشه دنيا، وكثير من النساء “يسائل السياسة الحكومية” التي لم تضع مثل هذه الحالات في خانة محددة في السياسة الاجتماعية التي تنهجها الدولة، وفق حقوقيين استشارتهم هذه المنصة.
فاطمة عريف، رئيسة جمعية “صوت الطفل” أوضحت في تصريح لمنصة “هنَّ” أن هذا الموضوع شائك، وبالغ التعقيد، و”يحتاج منا بحثا، ونقاشا طويلا ومعمقا، لأن جذوره اجتماعية قبل أن تكون قانونية”.
وتقول عريف، أنه “على المستوى الاجتماعي، نعلم أن الحكومة تقدم الدعم في الغالب للنساء الأرامل، كما أن هناك نوع من الحماية الاجتماعية للنساء المطلقات، لكن مثل الحالات الاجتماعية المتعلقة بهجر بيت الزوجية، فإنها لا تدخل في نطاق الحماية الاجتماعية، بل نجد فقط بعض الإشارات، والاجتهادات القضائية التي تحاول منح بعض الحقوق لمثل هؤلاء النساء، ومن الناحية القانونية، فإن مقتضيات مدونة الأسرة تمنح الحق للزوجة، طبقا للمادتين 51 و52، في مطالبة الزوج بالرجوع إلى بيت الزوجية في إطار دعوى مدنية أمام قضاء الأسرة”.
وشددت المتحدثة ذاتها قائلة “أنه يمكن في حالة الحكم برجوع الزوج، بمقتضى دعوى أمام القضاء المدني، وامتناع الزوج عن تنفيذ الحكم بالرجوع إلى بيت الزوجية، اللجوء إلى القضاء الزجري حيث يمكن تكييف فعله هذا على أنه جنحة إهمال أسرة، شريطة توفر عناصر الفصل 479 من القانون الجنائي، بأن يكون أبا، أي وجود أولاد، أو أن يكون عالما بحمل زوجته وأنه قد ترك بيت الأسرة لمدة تزيد عن شهرين وأن لا وجود لموجب قاهر”.
وأضافت عريف: “أعتقد أن مثل هذه الحالات تحتاج نقاشا يشارك فيه كافة المتدخلين، بصيغة موائد مستديرة، قصد تشريح هذه الظاهرة، والنظر لكل أبعادها، الاجتماعية، والقانونية والنفسية، قصد الخروج بمقترحات تصب في صالح هذه الفئة من النساء اللواتي يجدن أنفسهن بدون معيل، رغم كونهن نساء متزوجات وأمهات”.
من جانبه، أبرز نور الدين القدوري، المحلل بمعهد الجيوسياسية التطبيقية بباريس، أنه ” من المفروض على المعنية استكمال إجراءات الحصول على الدعم الاجتماعي، والذي ينطبق على حالتها، سواء كانت متزوجة أو غير ذلك”، مشيرا في تصريح لمنصة “هنَّ” أن “الدعم الاجتماعي الذي سنته الدولة يتوجه إلى مثل هذه الحالات، هذا بالإضافة إلى سلك المسطرة القضائية، التي ستحفظ لها الحقوق”.
من جهة أخرى، أثار المتحدث ذاته مسألة الاقتصاد غير المهيكل الذي استفحل بعد الأزمة الصحية كوفيد، خصوصا مع ارتفاع معدل البطالة إلى 13 بالمائة، وهو ما قوض مجهودات الدولة، المتمثلة في مشاريع التنمية البشرية، وسن قانون المقاول الذاتي.
ويعتبر الاقتصاد غير المهيكل، الذي يمثل حسب دراسة لبنك المغرب، 30 بالمائة من الناتج الداخلي الخام، تحديا للاقتصاد الوطني، الذي يحتاج إلى مصادر التمويل. في المقابل، يجب ادراج حكامة ترابية، لمعالجة الآفات الاجتماعية، لا سيما أن أرقام الإحصاء الوطني، تمنح رؤية واضحة عن سيناريوهات النمو الديمغرافي والتوسع العمراني.