تحل الذكرى الرابعة عشرة للثورة التونسية، “ثورة الياسمين”؛ لتعيد إلى الأذهان مشاهد الغضب والأمل التي ملأت الشوارع والميادين. وكأن هذه الذكرى تعيد عقارب الساعة إلى الوراء، لتجدد العهد بين التونسيين والتونسيات مع ساحات الاحتجاج والمطالبة بالحقوق.
ومنذ أشهر، تعيش تونس موجة من الاحتجاجات والتحركات الاجتماعية التي تمتد منذ بداية العام الجديد.
وفي هذا السياق، تنظم “الشبكة التونسية للحقوق والحرية”، تحركًا وطنيًا يوم 14 جانفي/ يناير 2024 بشارع الحبيب بورقيبة، لتؤكد أن “الثورة التونسية مازالت حيّة نابضة”، داعيةً إلى حماية مكاسبها في تعزيز الحريات وصون الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ويأتي هذا الحراك وسط تجاهل تام من قبل السلطات الرسمية لإحياء ذكرى سقوط النظام السابق، حيث تعمدت الدولة منذ 25 جويلية/ يوليو 2021 طمس هذا التاريخ، محاولة بذلك محو ذكرى اعتاد التونسيون إحياءها على مدار أحد عشر عامًا، واستبداله بتاريخ 17 ديسمبر/ دجنبر الذي اندلعت فيه شرارة الثورة بعد أن أضرم محمد البوعزيزي النار في جسده، ليصبح هذا اليوم الذكرى الرسمية للثورة.
وتستعيد الذكرى الـ14 للثورة التونسية ملامحها القديمة، فإلى جانب التحركات الحقوقية الرافضة لقمع الحريات والمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وسجناء الرأي والصحفيين، والتي قادتها عائلات المعتقلين ونشطاء المجتمع المدني؛ شهدت البلاد خلال الربع الأخير من السنة الماضية سلسلة احتجاجات اجتماعية.
وعاد عدد من الفاعلين الاجتماعيين إلى الشارع، في موجة جديدة من الغضب والمطالب المشروعة؛ المعلمون والأساتذة قاطعوا الدروس بعد عطلة الثلاثي الأول، ونظموا وقفات احتجاجية أمام وزارة التربية، مطالبين بصرف أجورهم وتنفيذ الأحكام الترتيبية لتسوية أوضاعهم المهنية وانتدابهم رسميًا.
وأمام التباطؤ في معالجة ملفهم العالق منذ 2011، وبالتوازي مع التقدم النسبي في ملف عمال وعاملات الحضائر، شهد الفضاء العام موجة احتجاجات أخرى شملت القيمين المرشدين وأعوان المخابر وأعوان التربية المختصة والعاملين بمراكز النهوض بذوي الإعاقة، الذين طالبوا بتسوية أوضاعهم المهنية وتحسين ظروف عملهم.
كما امتدت التحركات لتشمل مدنًا داخلية، حيث خرجت عاملات التنظيف والحراسة إلى الشوارع للتنديد بظروف العمل الهشة ونظام المناولة الذي يعمّق الاستغلال. وفي الأشهر الأخيرة من عام 2024 وبداية جانفي/ يناير 2025، تصاعدت احتجاجات العمال والعاملات الذين تم تسريحهم تعسفيًا، إلى جانب تنسيقيات العاطلين عن العمل من حاملي الشهادات العليا، الذين جددوا مطالبتهم بحقهم في التشغيل والكرامة والعمل اللائق.
ووفقًا للتقرير الثلاثي لـ”المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية”، “شكّلت التحركات المهنية والاجتماعية ما يقارب ثلث الاحتجاجات التي بلغت 826 تحركًا خلال الثلاثية الأخيرة من العام”.
وأشار التقرير إلى “تزايد التحركات المرتبطة بمتابعات قضائية تستهدف النشطاء الاجتماعيين، في محاولة لإسكاتهم وتقييد حرياتهم”.
كما سُجلت احتجاجات من الفلاحين ومنتجي الزيتون، إلى جانب تحركات شعبية رفضًا لغلاء الأسعار وتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. بالإضافة إلى ذلك، انصبت بعض التحركات على المطالبة بتحسين الخدمات العمومية الأساسية، كالصحة والتعليم والبنية التحتية، وفك العزلة عن المناطق المهمشة، وضمان الحق في التنمية.
وشهدت الفترة الأخيرة أشكالًا متنوعة من الاحتجاجات، تراوحت بين المسيرات السلمية، والمسيرات المتجهة إلى العاصمة، وحمل الشارات الحمراء، وغلق الطرقات، وتعطيل الأنشطة، وصولًا إلى حرق العجلات المطاطية والتهديد بالإضراب عن العمل والانتحار.
وفي تحليلها لهذه التحركات، ترى الباحثة في علم الاجتماع نجاة عرعاري أن الذاكرة تنقسم إلى نوعين: “الذاكرة الوطنية التي تصنعها السلطة عبر تحديد الأعياد والمواعيد الوطنية، والذاكرة الجماعية التي تحتفظ بها الجماعات في وجدانها، وتعيد إحياءها سنويًا”.
وأكدت عرعاري في تصريح لـ”هنَّ” على أنه “رغم محاولات الدولة طمس تاريخ 14 جانفي فإن الذاكرة الجماعية للتونسيين ترفض نسيانه”.
وأضافت: “لا يمكن لأهالي صفاقس أن ينسوا يوم 12 جانفي، تاريخ الإضراب العام، ولا يمكن لأهالي تالة والقصرين تجاهل أحداث 8 و9 جانفي التي شهدت سقوط شهداء وجرحى خلال المواجهات مع الشرطة”.
كما أن من شارك في تحرك 14 جانفي “لن ينسى توحد فئات المجتمع من أطباء ومعلمين ومحامين وطلبة خلف مطلب واحد؛ رحيل السلطة”، تضيف عرعاري.
وأكدت على أن “التاريخ تكتبه الجهات الرسمية، لكن الشعوب تحفظ صورها وذكرياتها، ولهذا سيبقى هذا التاريخ راسخًا في وجدان كل من عاش تلك اللحظات وآمن بقوة الشعب”.
وفي ما يتعلق بتزامن الاحتجاجات الأخيرة مع الذكرى 14 للثورة، لا ترى عرعاري وجود علاقة مباشرة، بل تعتبر أن “هذه التحركات مرتبطة بالسياق الزمني، إذ غالبًا ما تشهد نهاية السنة وبداية العام الجديد تصاعدًا في التحركات، تزامنًا مع مناقشة الميزانيات العامة وعدم تلبيتها لتطلعات الفئات الهشة”.
وتضيف المتحدثة أن “بداية السنة عادة ما تكون فترة يسعى فيها الناس لتحقيق آمالهم وتطلعاتهم، ما يدفعهم إلى التحرك والمطالبة بحقوقهم. وأشارت إلى أن تحرك فئة معينة يشجع فئات أخرى على الاحتجاج، في ظاهرة تشبه كرة الثلج”.
وتعتبر عاروري أن من خرج للاحتجاج نهاية 2024 أو بداية 2025 “لم يكن يستحضر ذكرى 14 جانفي، بل هم واعون بأن السنة الإدارية الجديدة تمنحهم الحق في أن يكونوا ضمن أولويات السياسات العمومية للدولة”.
ورغم ذلك، ترى الباحثة أن التحركات المرتبطة بالدفاع عن الحقوق والحريات يقودها فاعلون سياسيون ونقابيون ومثقفون، “يتمسكون بدورهم في الشأن العام، ويؤمنون بأن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لا تنفصل عن الحقوق المدنية والسياسية”. وهؤلاء يعتبرون أنفسهم وفق الباحثة، “جزءًا أساسيًا من عملية التغيير التي انطلقت يوم 14 جانفي، ولا يزالون متمسكين بنفس الأهداف: الحرية والكرامة الوطنية”.