بحثا عن الأمن، السلام والعيش الكريم، في فضاء لا تتعرض داخله للتعنيف والاستغلال الجنسي، اختارت “قلامس” أن تسلك طريقا طويلة من بلدها الكاميرون باتجاه تونس. فبعد المحادثات المطولة التي جمعتها مع صديقتها التي تعيش هناك منذ ثلاث سنوات أصبح لديها يقين أنها الخطوة التي يجب اتخاذها حتى تتمكن من اللجوء إلى دولة يتم فيها احترام ميولاتها الجنسانية ويمكنها الحصول فيها على عمل وصداقات بعيدا عن الوصم والتنمر والإقصاء والتهميش.
الرحلة الطويلة.. “دفع المال أو تقديم جسدي”
دفعت “قلامس” كلفة الرحلة كاملة منذ البداية، فذلك كان شرط “الناقل” لتتخلى عن الجزء الأكبر من مدخراتها.
وفجرا انطلقت من مدينتها “دوالا” وسط شاحنة مغلقة تراصت داخلها الوجوه، وجمعت اطفالا ونساء ورجالا من مختلف الأعمار.. مُنع عنهم الكلام والحركة، وحتى قضاء الحاجة ضبط بمواقيت.. ستة أيام وصلت بعدها الحمولة الى نيجيريا، اين توقفوا لأربعة أيام ثم ودون سابق انذار تم جمعهم مرة اخرى، وبعد سفر لـ48 ساعة بلغوا النيجر، لتأخذ الرحلة من هناك المنعطف الأخطر بالنسبة لـ”قلامس”.
“تعرضت للاعتداء الجنسي، لم أكن أعتقد أنني سأعيش هذه التجربة القاسية، تُركنا لوحدنا في صحراء النيجر، بدون ماء، ظللت تقريبا شهرًا في الصحراء، كنا نشرب الماء الذي يشربه الجمال، لم يكن لدي خيار آخر، كان المسافرون الذين يمرون من تلك الطريق يمنحونا بعض الخبز والسكر، وهذا ما جعلني أبقى على قيد الحياة”، تروي “قلامس” تلك التجربة لـ”هنَّ” بصوت مهدجٍ يملؤه الحزن.
وتضيف أنه للخروج من هذه الصحراء كان لديها خياران “دفع المال أو تقديم جسدي مقابل ذلك وقد اخترت الثاني لأنه لم يكن لدي المال، ما حدث معي مؤلم وصعب جدا وكلما تذكرته ينتابني الحزن، كنت مجبرة على هذا الحل، وبفضله وصلت إلى تمنراست أول مدينة جزائرية صادفتنا”.
بقيت هناك حوالي شهر، تعرضت خلاله للاستغلال، الضرب، الاغتصاب، الاحتقار والتقليل من القيمة، ليتم تسليمها بعد ذلك الى فريق من “الطوارق” بمدينة تمنراست الجزائرية ومنهم لمجموعة اخرى في الجزائر العاصمة ومن ثمة إلى مدينة تبسة على الحدود التونسية.. ايام طوال اخرج الجميع خلالها أسوأ ما فيهم، وكانت “قلامس ” في كل مرة تفارق وجوها شاركت معها جزءا من الرحلة، وتشهد انتهاكات واغتصابات جديدة.
مر عدد من الأيام الأُخر، وجاء دورها في المغادرة، وبدل نقلها ومن معها عبر شاحنة نحو تونس، أجبرت على السير لأيام وسط الصحراء حتى وصلت ولاية القصرين، ليتم “بيع” دفعتها إلى وسيط جديد سرعان ما تخلص منهم لفائدة آخر حملهم إلى ولاية صفاقس وحبسهم في منزل ذو طابقين واشترط على كل فرد منهم أن يدفع له ما قيمته 1500 دينار ليطلق سراحه.
“عند وصولنا إلى الحدود الجزائرية التونسية، قضينا هناك أسبوعًا ننام في العراء، ننتظر نقلنا إلى تونس، السائق الجزائري الذي أوصلنا إلى الحدود، باعنا إلى سائق تونسي ليأخذنا إلى صفاقس، عند وصولنا احتجزنا وطلب منا دفع جزية لتحريرنا، كان المنزل من طابقين ، وكنا أكثر من 300 شخص، وفي كل غرفة كل تقريبا 100 شخص، لقد تعرضنا للضرب بآلات حادة، لدي علامات جرح في ظهري ويدي وأيضا تم اغتصابي” تقول “قلامس” في شهادتها لهذه المنصة.
ومع الأعداد الجديدة التي تصل دوريا من المهاجرين أصبح الأكل قليلا وضاق المكان أكثر لكن لحسن الحظ وأمام ما تعيشه مدينة صفاقس من ضغط وانتشار أمني، الذي عقِبَ الخطاب العنصري لرئيس الجمهورية قيس سعيد، اضطر “الخاطفون” إلى إطلاق سراح الجميع خوفا من أي متابعات قضائية قد تترتب عن اكتشاف ما يقومون به.
موجة العنصرية.. “لا أستطيع النوم”
وسط طريق فلاحي وبعد مسافة سير لمدة 17 ساعة أدركت “قلامس” محطة القطار وسط مدينة صفاقس، جمعت سعر التذكرة من محسنين التقتهم وسط المحطة أمامها لتصل إلى تونس العاصمة بعد 109 يوم من مغادرتها مدينتها، إذ تقول لـ”هنَّ”، “استغرقت رحلتي من الكاميرون لتونس أربعة أشهر، كل ما أريده الآن هو الذهاب إلى مكانٍ يحترم حقوق الإنسان والنساء، وفي بلد لا أتعرض فيه لخطاب الكراهية”.
في محطة برشلونة كانت صديقة “قلامس” في انتظارها، وبفضلها تحصلت على بطاقة طالبة لجوء بعد أسابيع من تواجدها في مدينة تونس. لم تتمكن من العمل ومازالت تخاف مغادرة المنزل والظهور في الفضاءات العامة، كما أن موجة العنصرية والعنف والتضييق البوليسي التي يعيش على وقعها المهاجرون من ذوي البشرة السمراء في تونس منذ أكثر من سنة، جعلت مجال تحرك “قلامس” محدود للغاية.
ولم تسلم هذه المهاجرة غير النظامية من شظايا خطاب الرئيس قيس سعيد العنصري، فحسب تصريحها لـ”هنَّ”، فقد تعرضت للاعتداء عدة مرات، ما جعلها تعيش كوابيسًا بالبلاد، “لقد تعرضت للاعتداء عدة من المرات في تونس، وكلما اغمضت عيني أرى كل ما عشته خلال هذه الفترة، لا أستطيع النوم”.
وتجد “قلامس” نفسها عالقة وسط أحد أحياء العاصمة التونسية، لا تتمتع بمنحة من المفوضية السامية لحقوق اللاجئين، رغم أنها من المشمولين بهذا الحق. وليس لها أي مورد عيش، ولا يمكنها الحصول على العلاج في القطاع الخاص للصحة في البلاد التونسية نظرا لتكلفتها الباهضة، وظفرت بموعد خلال شهر ستة في إحدى المستشفيات العمومية ما قد يزيد في تعكير وضعها الصحي الذي لحقته أضرار واضحة مع نهاية الرحلة.
وحسب الاحصائيات المنشورة عن منظمة الهجرة الدولية ومنظمات الإغاثة الإنسانية، فإن طريق الهجرة “جنوب شمال”، “يسلكها يوميا الآلاف من المهاجرين”، القادمين من دول جنوب الصحراء الكبرى نحو بلدان الجهة الشمالية، ومنها تونس، وتختلف فيها التجارب والمخاطر التي يتعرضون لها باختلاف فئاتهم ومساراتهم.
“وتمثل النساء نسبة في حدود الثلث من مجموع المهاجرين من المنطقة وإليها” حسب دراسة لـ”المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية” اهتمت بالخصائص العامة لفئة المهاجرين القادمين من جنوب الصحراء والمقيمين بالدولة التونسية.
وتقول ذات الدراسة من بين هؤلاء “قد نجد من اختار الهجرة طوعا بحثا عن حماية دولية أو فرصا اقتصادية، كما نجد بينهم من تعرض للتحيل وأجبر على الهجرة قسرا، ولذلك في معظم الأحيان يصنف هؤلاء المهاجرين في فئة ضحايا الاتجار بالبشر”.