بتواضع وابتسامة عريضة، تحكي سناء لميكروفونات الصحفيين، خلال العرض الأول لفيلمها “الوصايا” بالدار البيضاء، عن سعادتها وهي ترى الإقبال الكبير الذي يعرفه الفيلم، حيث امتلأت كراسي القاعة عن آخرها من أجل مشاهدة هذا العمل الفني الذي جعل من معاناة النساء بسبب القوانين المجحفة موضوعه المحوري.
انتقلت “هنّ” إلى عين المكان بسينما “ميغاراما” لمشاهدة العرض الأول للفيلم تلبية لدعوة سناء، وهو الفيلم الذي سلط الضوء بذكاء على “كشكول” من المواضيع النسائية المختلفة؛ مشاكل الحضانة، زواج المرأة الحاضن بعد الطلاق وفقدانها للحضانة، مشاكل الولاية الشرعية للأطفال، مشاكل الإنفاق وتقاسم الممتلكات، التعدد، تزويج القاصرات، التمكين الاقتصادي للنساء في البوادي، العنف الزوجي، البرود الجنسي، معاناة الطفل المكفول بعد موت الأب والأم وحرمانه من النسب والإرث، مشاكل التعصيب في الإرث، النظرة المجتمعية التشيئية للنساء، الفضول المجتمعي، أوضاع ذوي الإعاقة ومشاكلهم، وغيرها.
الطريقة التي يعرض بها الفيلم هذه القضايا الواقعية، بأسلوب درامي مؤثر، ستجعل المشاهد، حتما، يعيد التفكير في الإشكالات القانونية والاجتماعية التي تؤثر على حياة النساء والأطفال في المجتمع، وهو طرح نادر في الأعمال السينمائية، كما أن تجسيد هذه المشاكل، من خلال قصص متنوعة، يدخل المشاهد في خضم هذه المعاناة، خصوصا وأن التشخيص كان قويا ومؤثرا، حيث أبدع الممثلون، وعلى رأسهم سناء، في تجسيد شخصيات تعكس الواقع المعاش، ما أضفى على الأحداث مصداقية كبيرة.
بدورها، لبت سناء دعوة “هنّ” للحوار حول الفيلم وواقع المرأة المغربية، قائلة إن “الوصايا” يمثل تجسيدا لوضع نساء يعانين من تبعات جملة من الثغرات القانونية، مسلطا الضوء خصوصا على إقصاء المرأة من اتخاذ قرارات مصيرية بشأن أطفالها، رغم أنها تتحمل مسؤولية تربيتهم ورعايتهم.
واعتبرت أن القوانين الحالية تحمل ثغرات واضحة لم تأت صدفة، بل تعكس رؤية ذكورية متحكمة ومتحيزة، تجرد المرأة من استقلالها، وكرامتها، بل وحتى من أمومتها، مشيرة إلى أنها أرادت من خلال فيلمها، الكشف عن هذا الخلل القانوني، وفضح استخدامه لتكريس هشاشة النساء وتهميشهنّ وسلب حقوقهن الأساسية، في المغرب كما في عدد من المجتمعات العربية.
وأشارت إلى أن التعديلات المقترحة على مدونة الأسرة ليست كافية، لكنها تشكل حلا للحيف والظلم الواقع على النساء داخل مؤسسة الأسرة، وخطوة هامة تسير بالوضع الحقوقي نحو الاتجاه الصحيح.
وأوضحت أن الثورة القانونية في مدونة الأسرة غالبا ما تقابل بالمقاومة، وكأنها تأتي لإحداث صدمة وتغيير عادات وأعراف اعتاد عليها الناس، مشيرة إلى أن الرفض يكون خصوصا من طرف الرجال، لأنهم اعتادوا على شكل معين من السلطة، بينما هذه التعديلات تأتي لتحد من تلك الهيمنة والتمييز الذي كان يمنحهم موقعا أعلى، وتنتزع امتيازاتهم ومكانتهم، مما يهدد إحساسهم بالتفوق والسيطرة.
وشددت على ضرورة تناول الأعمال الفنية لواقع النساء ومعاناتهن في ظل انعدام المساواة بين الجنسين، دون الاكتراث باستنكار البعض أو رفضه لها، لأن المهم حسبها هو تحريك المياه الراكدة، ليحتدم النقاش المجتمعي فيسهم في تغيير الأمور.
وفيما يلي نص الحوار كاملا:
س: ما هو موضوع فيلم “الوصايا” بشكل عام، وما الهدف الرئيسي منه؟
ج: يسلط فيلم “الوصايا” الضوء على مجموعة من القصص والقضايا الاجتماعية والقانونية التي تتحدث عن واقع النساء، خاصة الأمهات المطلقات ومعاركهنّ مع الحضانة والولاية الشرعية وحقهن في تقرير مصير أطفالهن. ويتحدث الفيلم أيضا عن موضوع تزويج القاصرات، وأهمية التمكين الاقتصادي والاستقلال المالي للمرأة، وإشكالية نظام الكفالة وحقوق الأطفال المكفولين، إضافة إلى قضايا ولوجيات ذوي الاحتياجات الخاصة، وضرورة تسهيل إدماجهم في الحياة العامة. وقد حرصتُ على تقديم كل هذه المواضيع بطرح واقعي هادف، من أجل تجسيد صورة واقعية عن الاختلالات والإشكالات القانونية والاجتماعية، وأثرها على النساء والأطفال.
س: كيف راودتك فكرة كتابة سيناريو الفيلم حول كل هذه المواضيع؟
ج: جاءت فكرة فيلم “الوصايا” مباشرة بعد عرض فيلم “ميوبيا” في القاعات السينمائية. كان “ميوبيا” يتناول قضايا التمكين الاقتصادي للنساء في العالم القروي، والعزلة التي تعاني منها الساكنة القروية، مع التركيز على أهمية تعليم المرأة باعتباره وسيلة لتحسين مستواها الاجتماعي والاقتصادي والتربوي، وتعزيز دورها في تربية الأجيال.
أثناء بحثي في موضوع العالم القروي، اكتشفت قصصا أخرى لفتيات قاصرات يتم تزويجهن في سن مبكرة، حيث لاحظت أن ظاهرة تزويج الطفلات منتشرة بشكل كبير في المناطق القروية، نتيجة الهدر المدرسي، والفقر، وضعف الوعي، كما يتم التطبيع معها بشكل كبير، رغم آثارها الوخيمة على حياة هؤلاء الفتيات.
كثيرات مِنْهُنَّ وجدن أنفسهن مطلقات في سن مبكرة، ليواجهن ظروفا قاسية ومجحفة، وهي المعاناة التي لا تقتصر فقط على النساء في القرى، بل تمتد أيضا إلى النساء في المدن، حيث تعاني المطلقات من إكراهات صعبة نتيجة منظومة قانونية واجتماعية غير منصفة، خصوصا بوجود الأبناء.
من هنا جاءت رغبتي في تخصيص فيلم “الوصايا” لكل هذه القضايا وغيرها، ليس فقط من منظور مغربي، بل من زاوية أوسع تشمل العالم العربي ككل، حيث لا تزال المنظومة القانونية تكرس التمييز ضد المرأة، وتحد من حقوقها، مما يجعلها عرضة للحيف والظلم الاجتماعي والقانوني.
قررت تطوير قصة تجمع مختلف النساء اللواتي يعانين من هذه القضايا، فابتكرت شخصية “ضاوية”، وهي امرأة مثقفة ومستقلة ماديا، قادرة على إعالة أسرتها واتخاذ قراراتها بوعي وثقة، هذا الاستقلال منحها الجرأة للتعبير عن معاناتها، والاعتراض والانتفاض في وجه ظلم القوانين والنظرة المجتمعية، وهو ما جعلها تجسد صوتا نسائيا واعيا وقويا.
س: إذن ففكرة إنتاج الفيلم بزغت قبل إعلان الملك محمد السادس تعديل مدونة الأسرة والنقاش الذي صاحب ذلك.
ج: نعم، هذه القصص كُتبت قبل خمس سنوات، وخضعت للتطوير والتعديل المستمر، مع إضافة مشاعر وحوارات مستمدة من واقعي الشخصي، ومن ملاحظاتي والخلاصات التي توصلت بها حول ما يجري.
تم التحضير للفيلم بشراكة مع وزارة العدل قبل تعليمات جلالة الملك بتعديل المدونة. بدأنا العمل مبكرا، فهذا الالتزام ليس جديدا، لا بالنسبة لي كمنتجة للعمل الفني، ولا بالنسبة للحقوقيين والمشرّعين المغاربة. الانتصار لحقوق النساء هو التزام ممتد عبر سنوات وعقود، وليس مجرد استجابة آنية لنقاش عمومي أو مواكبة لتعديلات حديثة، هو ثمرة نضال وحراك طويل جاء لدحض وفضح الإشكالات والاختلالات التي برزت أثناء تطبيق هذه القوانين المجحفة في حق النساء، وحتى الأطفال.
هناك دائما فجوات قانونية لا تواكب التطورات التي حققتها المرأة اقتصاديا وقانونيا في بلادنا، سواء تعلق الأمر بنسخة مدونة الأحوال الشخصية القديمة، أو بمدونة الأسرة لسنة 2004. لذلك، تأتي التعليمات الملكية استجابة للحاجة الملحة إلى قوانين أكثر عدلا وإنصافا، أما فيلم “الوصايا” فقد جاء صدفة في الوقت المناسب، ليكون إضافة نوعية تُثري النقاش العمومي، وتُقدم طرحا موضوعيا يمكن الجمهور من رؤية قضايا الأسرة من منظور مختلف، وتشرح بذلك دواعي تعديل مدونة الأسرة والثغرات القانونية التي تعتريها، باستعراض قصص واقعية لنساء وأطفال يعانون بسبب هذه القوانين.
س: ما هي الإكراهات التي تعاني منها النساء وما أوجه التمييز ضدهن التي تطرق إليها فيلم “الوصايا”؟
ج: التمييز ضد المرأة لا يقتصر على فئة دون أخرى، سواء كانت ربة بيت أو قاضية أو معلمة أو طبيبة، تظل جميع النساء مقيدات في قراراتهن، خاصة عندما يتعلق الأمر بالنظر في شؤون أطفالهن، السلطة دائما بيد الرجل، وهو ما ينعكس على قضايا الولاية والنفقة وغيرها من الإشكالات القانونية التي تقيد النساء.
نعلم جميعا أن المرأة تُنجِب، وتُربي، وتعتني، وتتحمل المسؤولية الكاملة لأطفالها، لكنها في المقابل لا تمتلك الحق في اتخاذ قرارات مصيرية تخصهم، لا يمكنها تسميتهم، أو توقيع أوراقهم، أو التدخل في شؤونهم القانونية، ما يجعلها تشعر بالعجز وكأنها مغتربة عن أبنائها. هذا الإقصاء القانوني يشكل بالنسبة لي قمة الإجحاف والظلم، لذا كان لا بد من الحديث عنه من خلال قصص استعرضها الفيلم، خيالية نعم، لكنها مستوحاة من الواقع.
فمادام القانون لا يمنح المرأة الحق في اتخاذ القرارات المتعلقة بمصير أبنائها، الذين حملت بهم، وتعبت من أجلهم، ومنحتهم من تفكيرها ودمها وجسدها، فإنه بذلك يجردها من أمومتها.
والقوانين الحالية تحمل ثغرات واضحة، وهي ثغرات لم تأتِ صدفة، بل تعكس رؤية ذكورية متحكمة ومتحيزة، تجرد المرأة من استقلالها، وكرامتها، وحتى من شرعية أمومتها. ومن خلال هذا الفيلم، أردت أن أكشف هذا الخلل القانوني، وأفضح كيف يستخدم لتهميش النساء وسلب حقوقهن الأساسية، ليس فقط في المغرب، بل في مجتمعات عربية أخرى تواجه إشكالات مشابهة.
س: كيف كان إقبال الجمهور على مشاهدة الفيلم بعد عرضه للمرة الأولى في صالات السينما؟ وكيف كانت ردة فعله؟
ج: لقي الفيلم إقبالا كبيرا واستثنائيا من طرف الجمهور الذي فاجأني بذكائه العاطفي في التجاوب مع الأحداث وحساسيته العالية والمرهفة، الجمهور هنا لم يتفاعل مع الفيلم فحسب، بل شاركه وأوصى به. النساء وجدن فيه انعكاسا لواقعهن وكذلك الرجال، بل وإن بعض مشاهده تحولت إلى “تريند” على مواقع التواصل الاجتماعي، وقد تداولها كثيرون من الجنسين، منها مشهد تقول فيه الشخصية الرئيسية: “عييت، بغيت غير نهار واحد ما نفكرش وما نخممش ونتكلّخ…”، لم يقتصر التفاعل مع هذا المشهد على النساء فقط، بل تواصل معي رجال أيضا ليعبروا عن الشعور نفسه، قائلين إنهم يتمنون، ولو ليوم واحد، أن يرتاحوا من المسؤوليات، ويصمتوا، ويسترخوا دون ضغوط. هذا التعبير الصادق عن الإرهاق النفسي لامس مشاعر الكثيرين، لأن الناس ببساطة “عياو”.
الشخصيات في الفيلم ليست مجرد شخصيات خيالية، بل هي انعكاس لأصوات حقيقية، وحواراتها مأخوذة من واقع الناس ومعاناتهم اليومية. لهذا، وصلت الرسالة إلى الجمهور بعمق، ولامستهم بصدق، رغم قساوة الحقيقة التي يعرضها الفيلم، لذا أنا سعيدة بردود الأفعال، وبفهم الجمهور لرسائل الفيلم، فعلى الرغم من أنه قاسي وواقعي، لكنه تحدث عن أحوال الناس بصدق، فكان قريبا منهم ومن وجدانهم، وهذا تماما ما كنت أطمح إليه.
س: يتناول الفيلم “تابوهات” وبعض القضايا المسكوت عنها في علاقة المرأة بالرجل، برأيك، إلى أي مدى قد يتقبل الجمهور هذه الأفكار؟
ج: على العكس تماما، تقبل الجمهور للفيلم كان أمرا لافتا، ومرده إلى أن الأفكار المطروحة كانت عميقة، والتناول جاء واقعيا، موضوعيا، ورزينا. فما دام الطرح مختلف، وعقلاني، ويحمل أفكارا وشخصيات وحوارات مستوحاة من الواقع بصدق، فالجمهور كان ذكيا وحساسا بما يكفي ليتفاعل معه بوعي وانفتاح.
المواضيع لم تجسد فقط علاقة المرأة والرجل، بل امتدت لتشمل قضايا الأطفال، الأسرة ككيان، والعلاقات الاجتماعية بمختلف أبعادها، بما في ذلك علاقتنا بالمحيط. هذه التفرعات والعلاقات التي يتناولها الفيلم جعلت الجمهور يتلقاه بحساسية كبيرة، بسعة صدر، وبإنصات وتركيز فاجأني كمخرجة.
لم يخيب المتابعون أملي أبدا، بل على العكس، أدهشني حجم الإقبال، والطريقة التي يناقشون بها الفيلم، ويحللون مشاهده، ويتبادلون المقاطع التي أثرت فيهم، بالإضافة إلى الطريقة التي يتحدثون بها عن “الوصايا” التسع التي أدرجناها بالفيلم، عن الحوارات، وعن اللحظات التي لامستهم، كل شيء يؤكد لي أن الهدف الذي سعيت إليه من خلال الكتابة بهذا الأسلوب الواقعي قد تحقق.
س: ما رأيك في التعديلات المقترحة على المدونة؟
ج: المقترحات المقبولة تشكل 80 في المائة تقريبا من المشاكل التي طُرحت على طاولة هيئة مراجعة مدونة الأسرة، وهذا في حد ذاته إنجاز مهم. بالنسبة لي، أي تعديل، ولو كان صغيرا ووحيدا، يمثل خطوة كبيرة ومنعطفا حاسما في المسار الحقوقي لبلادنا، من أجل ترسيخ العدالة الاجتماعية للنساء.
س: هل تعتقدين أنها كافية لمعالجة بعض المشكلات التي تواجه الأسرة؟
ج: هذه التعديلات ليست كافية طبعا، لكن من شأنها تحقيق العدل والإنصاف والمساواة في الحقوق والحريات بين الرجل والمرأة، معلوم أن المسار الحقوقي ورشة مستمرة تتطور مع التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي يشهدها المجتمع، ولا نزال نطمح للأفضل، لكن رغم ذلك، ما تحقق حتى الآن يعد تقدما مهما يمكن الإشادة به، ويمثل حلا للحيف والظلم الواقع على النساء داخل مؤسسة الأسرة، سواء كن متزوجات أو مطلقات.
واحدة من أبرز القضايا التي تعالجها هذه التعديلات هي وضعية المرأة المطلقة، التي تعاني حاليا من “تغريب قانوني” تجاه أبنائها، كما تحرم من التصرف في أمورهم المصيرية. المقترحات المقدمة جاءت بحل الولاية المشتركة للأب والأم على الأبناء، وهو مكسب عظيم، صحيح أن التعديلات ليست كافية، إذ لا تزال هناك فجوات تحتاج إلى المعالجة، لكن، إذا تم في نظري تنفيذ هذه المقترحات كما هي مطروحة، سيشكل ذلك تقدما جيدا وخطوة مهمة تسير بالوضع الحقوقي نحو الاتجاه الصحيح.
س: استعراض بعض التعديلات التي ستطرأ على المدونة لقي استنكارا وانتقادا واسعا على مواقع التواصل الاجتماعي، لماذا كل هذا الرفض المجتمعي في نظرك؟
ج: في الواقع، الأمر لا يتعلق بالرفض المطلق بقدر ما هو تخوف ناتج عن نقص المعلومات وغياب صورة واضحة عن هذه التعديلات، فهناك تفاصيل كثيرة ما زالت قيد الدرس والمناقشة وإعادة النظر، إلا أن البعض يرفض فعلا هذه التعديلات، بسبب الخوف من فقدان السلطة الذكورية التي يحميها القانون في السابق كما الآن.
في نسخة 2004 من المدونة، كانت سلطة اتخاذ القرار داخل الأسرة تمنح للرجل وحده، حيث كان يحتكر الولاية، التي يقرر من خلالها في شؤون الأبناء، وهو ما كان يستغل أحيانا بطريقة سيئة، ويعتمد كورقة رابحة لممارسة الابتزاز على الأم المطلقة. التعديلات المقترحة لم تُلغِ هذه السلطة بالكامل، بل قسمتها بين الأب والأم، لكن بالنسبة للبعض، هذا التغيير يُنظر إليه كأنه انتزاع لامتيازات كانت تمنح الرجل سلطة مطلقة داخل الأسرة، مما يهدد إحساسه بالتفوق والسيطرة.
بالإضافة إلى ذلك، هناك قضية استغلال المرأة داخل مؤسسة الزواج، سواء كأم، كربة بيت، أو حتى كعاملة داخل المنزل وخارجه. لا يتم تثمين المجهود الهائل الذي تبذله المرأة في رعاية البيت والأبناء، حيث تتخلى الكثيرات عن طموحاتهن ومستقبلهن من أجل التفرغ لعائلاتهن. هؤلاء النساء يكرسن حياتهن لتوفير بيئة سليمة لنجاح أزواجهن وأبنائهن، ويدعمن الأسرة على جميع المستويات. لكن بعد سنوات طويلة من العطاء، قد يفاجأن بزوج يقرر الرحيل ببساطة، متذرعا برغبته الشرعية في التعدد، تاركا الزوجة دون مورد رزق.
لهذا جاءت هذه التعديلات المقترحة، التي لا تزال مجرد أفكار قيد الدراسة، لضمان إنصاف النساء في مثل هذه الحالات، ومن بين المقترحات المطروحة، تمكين المرأة من تقاسم ما راكمته الأسرة من ثروة خلال سنوات الزواج، باعتبارها شريكة في بنائها، كذلك هناك مقترح آخر يهدف إلى حماية النساء والأطفال بعد وفاة الزوج من خلال حفظ بيت الزوجية، حيث تواجه كثير من الأرامل خطر الطرد من منازلهن بسبب نظام التعصيب، هذا التعديل يسعى لضمان استقرار الأسرة، وحماية النساء والبنات من التشرد والجشع الذي قد يتعرضن له.
أي تغيير قانوني، خاصة عندما يتعلق بقضايا حساسة مثل الأسرة، يثير دائما جدلا واسعا، لأن المجتمع معتاد على أنماط معينة من العلاقات والسلط داخل الأسرة، وأي مساس بها يُنظر إليه أحيانا كتهديد للاستقرار. لكن في الحقيقة، هذه التعديلات تأتي استجابة لحالات واقعية ومعاناة حقيقية تعيشها النساء يوميا، ولا يمكن السكوت عنها إلى الأبد.
س: إلى جانب المدونة، ما هي القوانين الأخرى التي ترين أنها بحاجة إلى مراجعة من أجل تعزيز حقوق المرأة والأسرة؟
ج: أول خطوة أساسية لتعزيز حقوق المرأة والأسرة هي وضع وترسيخ ترسانة قانونية قوية تحمي المرأة وتوفر لها الأمان القانوني والاجتماعي والاقتصادي. هذه القاعدة وحدها كافية كنقطة انطلاق متينة نحو تحقيق مكتسبات وحقوق أخرى، فعندما تضمن القوانين العدالة الاجتماعية والكرامة والحرية والأمن للمرأة، فإنها تشكل الأساس لأي إصلاح مستقبلي يمكن أن يواكب التغيرات والتحديات التي يواجهها المجتمع.
القوانين ليست جامدة، بل هي ورشة مستمرة في التطوير والتعديل، وهذا ما رأيناه في تطور مدونة الأحوال الشخصية ثم في إصلاح مدونة الأسرة لسنة 2004، كلها خضعت لمراجعات وتحولات بناء على الحراك المجتمعي والتغيرات الاقتصادية والاجتماعية. لذلك، من المهم أن نستمر في بلورة قوانين جديدة تتماشى مع تطورات البلاد، وتحترم منظومة القوانين الوطنية والمواثيق الدولية، حتى نصل إلى منظومة قانونية متكاملة تحقق العدالة للجميع، وذلك سيكون الأساس الذي تبنى عليه باقي الإصلاحات والتعديلات المستقبلية.
س: برأيك، كيف يمكن مواجهة الصور النمطية للمرأة في مجتمعنا؟
ج: يمكن مواجهة الصور النمطية بالحديث عنها وتناولها بشكل موضوعي وواقعي، بعيدا عن التزييف أو ازدواجية الخطاب. يجب أن نتناولها بصدق، بدون خوف أو نفاق، تماما كما قمنا بذلك في “الوصايا”، يمكن تقديم جزء من الواقع بشكل حقيقي يعكس صوت النساء. هناك العديد من القضايا الحساسة التي لم يتم تناولها بشكل كاف في الإنتاج الفني، ولذلك فمن واجبنا كصناع محتوى أن نعرض هذه النماذج والقصص، ونسلط الضوء على الاختلالات التي تعيشها المرأة وتبعاتها، خاصة تلك الناجمة عن ازدواجية المعايير في المجتمع.
يجب أن نتحدث عن هذه الاختلالات ونوصلها للمشاهد بطريقة تحفزه على التفكير وإثارة النقاش. عندما تناقش القضايا، قد يستنكرها البعض، أو يندد بها آخرون، أو يتفاعلون معها بمشاركتها والتعليق عليها، أو حتى بالصدمة والاستغراب. المهم هو تحريك المياه الراكدة ليحتدم النقاش المجتمعي فيسهم في تغيير الأمور.
س: هل تعتقدين أن تغيير القوانين يمكن أن يسهم في تغيير العقليات؟
ج: أكيد، يمكن لتغيير القوانين أن يساهم في تغيير العقليات، لكن مهما بلغ سلطان القانون وقوته، فإنه لا يتجاوز السلوك الخارجي، بينما يبقى السلوك الداخلي، كالوازع الأخلاقي والضمير، مرتبطا بالتربية. لذلك، يجب الاستثمار في التربية والتعليم، وكذلك في الأعراف والموروث الثقافي، لأن لهذه العوامل تأثيرا كبيرا في مواجهة الصور النمطية حول المرأة وطريقة التفكير تجاهها.
س: هل تعتقدين أن السينما يمكن أن تساهم في تحسين وضعية المرأة المغربية؟ وكيف يمكن تحقيق ذلك؟
ج: يمكن للسينما أن تساهم في ذلك من خلال تقديم قصص واقعية تسلط الضوء على هذه الاختلالات، وذلك عبر شخصيات نسائية تخوض معاركها بشجاعة، تتحدث دون مواربة، وتعبر بلغة حقيقية وواقعية، حتى وإن كانت قاسية، لكنها تعكس الواقع بصدق، وتكشف عن الاختلالات الموجودة فيه. لا يقتصر هذا الدور على السينما فقط، بل يشمل أيضا المسرح والأدب بجميع أنواعه وفروعه، وفنون الفرجة بمختلف أشكالها، من القصة والرواية إلى الأفلام والمسلسلات الدرامية. فجميع هذه الوسائط تتحمل مسؤولية المساهمة في تحسين وضعية المرأة والارتقاء بها.
س: تتعرضين في الفترة الأخيرة لهجوم إلكتروني كاسح، كيف تتعاملين مع هذه الانتقادات السلبية؟
ج: ليس الآن فقط، هذا منذ زمن طويل، فكلما قدمت عملا جديدا، أتلقى الهجوم، وهذا أمر طبيعي وصحي. هناك نقد بناء، وهناك أيضا نقد يحمل بعض العنف، فليس كل الناس يحسنون تقديم انتقاد موضوعي. من جهة أخرى، عندما أقدم عملا أو مادة فنية، أكون مستعدة لتلقي النقد بكل أشكاله ومستعدة لجميع أنواع التفاعل الممكنة. هذه العملية الصحية تثري أعمالي، وتجعل مسيرتي مختلفة ومفيدة، كما أنها تساهم في إغناء النقاش العام. أعمالي تتناول في معظمها قضايا النساء وظروفهن، وهي غالبا ما تثير زوابعا وعواصفا، وتخلف الكثير من الجدل والنقاش.
س: برأيك، لماذا تتعرض النساء، وخاصة المدافعات عن حقوق المرأة، للهجوم على مواقع التواصل الاجتماعي؟
ج: عندما تختارين أن تخوضي معركة، تكونين مستعدة للهجوم. إنها معركة نواجهها، ليس فقط نحن النساء، بل أي شخص لديه الشجاعة للنضال من أجل حقه في العدالة والحرية والإنصاف، دون تمييز على أساس الجنس أو النوع أو العرق. المعارك التي، أي معركة يخوضها الإنسان من أجل حق، ستجعله عرضة للشيطنة، سيتم رجمه ومعاقبته بالنبذ، سيتهمونه بالخيانة، ويشككون في شرفه ودمته وكل شيء. هذه هي الأسلحة التي يستخدمونها للتنمر عليه، لإضعافه وجعله يتنازل ويعود إلى الوراء ليقول: “هذشي فيه الصداع، هذشي كياكل فيه الواحد العصا”. لكن لا، الشخص الشجاع والمقتنع بمعركته ودوافعه وحقه سيواصل رحلته ومعركته، حتى لو تم نعته بأسوأ الأوصاف، سيواصل رحلته بشجاعة.
س: تنتشر على مواقع التواصل حملات ذكورية مثل “لا للزواج من الموظفة” و”Red pill”، كيف تنظرين إلى مثل هذه الظواهر؟ وكيف يمكن التصدي لها؟
ج: الحل هو الاستثمار في التربية والتعليم، فنحن ما زلنا متأخرين رغم التقدم في البنية التحتية والمشاريع. اليوم، نحن مقبلون على ثورة حقوقية وقانونية إيجابية، ويجب أن يواكبها الاستثمار في التعليم والصحة النفسية والجسدية، لنتمكن من الاستفادة من هذه القوانين، ونضمن مستوى تعليمي وتربوي قادر على استيعاب هذه التغيرات. أما حملات مثل “لا للزواج من الموظفة” وغيرها، فهي تافهة ولا تستحق التوقف عندها.
س: كيف ترين واقع “الفيمينيزم” اليوم في مجتمعنا؟ وهل تعتقدين أن هناك سوء فهم حول المفاهيم النسوية؟
ج: نعم، هناك تسويق خاطئ لـ”الفيمينيزم” وللغاية منه، لذلك يجب على المرأة في نضالها من أجل حقوقها وعدالتها الاجتماعية أن تتحلى بالثقة والنضج. لا ينبغي أن يكون التعامل مع هذا الموضوع بسطحية أو انفعال مبالغ فيه، بل بهدوء ورصانة. لذلك، على المرأة أن تطمح لإثبات جدارتها وكفاءتها من خلال العمل الجاد، بعيدا عن الحساسية المفرطة أو استغلال الخطاب النسوي للمطالبة بكل شيء دون بذل الجهد المطلوب، خصوصا في سوق العمل، عليها أن تثبت أحقيتها في المناصب بكفاءتها، تماما كما هو الحال بالنسبة للرجل.
القانون اليوم أصبح يدعم حقوق المرأة في مسارها نحو المساواة والعدالة، لذلك ينبغي التركيز على تطوير الآليات والميكانيزمات التي تمكن النساء من تحقيق النجاح بجدارة، عوض منح المنصب للشخص لمجرد كونه امرأة، ولعب النساء دور الضحية للمطالبة بالمساواة، التمكين السياسي والاقتصادي لا يأتي بالكلام فقط، بل بالعمل والإثبات والاستحقاق، فالمناصب يجب أن تُمنح للأكفأ، لذا حان الوقت لتجاوز المبالغة في الخطاب النسوي من أجل تحقيق المساواة الفعلية بين الجنسين.
س: هل لديك مشاريع أو أعمال قادمة يمكن أن تشارك الجمهور بعض التفاصيل عنها؟
ج: بينما كنت أكتب وأصور فيلمي “الوصايا”، كنت أعمل أيضا على مشاريع جديدة تتناول قضايا واقعية. في الوقت نفسه، أفكر في العودة إلى أعمالي القديمة المرتبطة بالحكايات الشعبية، فهذه الأعمال التراثية الجميلة تمنحني راحة خاصة. أرغب في إنجاز عمل جديد في هذا الاتجاه إن شاء الله.