مع حلول شهر أكتوبر، الذي صار يُعرف عالميًا بـ”الشهر الوردي”، تتحوّل الشوارع والمحلاّت والمطاعم إلى فضاءات ملوّنة بالوردي، في محاولة للتحسيس والتوعية بمرض سرطان الثدي. الشركات الكبرى تستثمر في هذا الشهر للإعلان والترويج لمنتجاتها من خلال عروض مخفضة ووجبات تحمل أسماء تحسيسية مثل Rose وBelle.
ولكن في المقابل، تُعاني النساء المصابات من نقص حادّ في الأدوية ومن إقصاء صحي يعيق علاجهنّ ويهدّد حياتهنّ، ممّا يطرح سؤالًا عن جدوى هذه التوعية التجارية إن لم تكُن مرفوقة بدعم حقيقي للنساء المصابات، فهذا الحدث التجاري الذي يدر أرباحًا على الشركات الكبرى، لا ينفي ولا يخفي ما يُمكن أن تنتظره النساء المصابات بسرطان الثدي على هامش الدعم الحقيقي.
من اللمسة الخفيفة للإعلانات الورديّة، إلى الماراثونات الرمزية والتسابق الخيري، يظهر الشهر الوردي كفرصة للتوعية، لكنّه في الوقت نفسه يسلّط الضوء على التناقض الكبير بين الصورة الإعلامية للمرض، والواقع القاسي للنساء اللواتي يواجهنه يوميًا. فبينما يحتفل العالم بانتصارات الناجيات، يُعاني كثير منهن نقص الأدوية الحيوية، وتأخّر العلاج، وغياب التغطية الصحية الشاملة، ممّا يجعل من معركة البقاء أكثر صعوبة وتعقيدًا.
في هذا السياق، تُصبح قصص النساء التونسيات أكثر من مجرّد شهادات شخصية، فهي مرايا تعكس تباين المجتمع بين الاهتمام الرمزي بالمرض والتحرّك المدني الحقيقي لدعم النساء المصابات، بين الحملات التسويقية والواقع الصحّي والاجتماعي الذي يفرض تحديّات حقيقية في كل مرحلة من مراحل المرض، من التشخيص إلى العلاج النفسي والجسدي.
ماهو سرطان الثدي؟
يُعدُّ سرطان الثدي أكثر أنواع السرطانات انتشارًا بين النساء، كما يصيب الرجال بنسبة أقلّ. تظهر علاماته عادةً من خلال تغيّر في حجم الثدي أو شكله، انقلاب الحلمة، أو ظهور كتلة أو تقشّر في الجلد.
وتؤكّد المختصّة في جراحة الأورام والكاتبة العامّة لجمعية “نوران” للوقاية من السرطان، سلمى قادرية، أنّ العالم يسجّل سنويًا أكثر من 18 مليون إصابة بالسرطان وأكثر من 10 ملايين وفاة. وفي تونس، ورغم غياب سجلّ وطني محدّث للسرطانات، تشير التقديرات إلى 22 ألف و690 حالة إصابة بأمراض السرطان، منها نحو 4400 حالة سرطان الثدي لسنة 2024.
وتُشير الدكتورة قادرية إلى أنّ “معظم حالات سرطان الثدي تُكتشف متأخرة، ممّا يصعّب العلاج ويقلّل من نسب الشفاء”، مؤكّدةً على أهمية الوقاية “عبر نمط حياة صحي يتمثّل في الابتعاد عن التدخين والكحول، اعتماد تغذية متوازنة، المحافظة على وزن مناسب، وممارسة النشاط البدني بانتظام”، حيث يمكن للنشاط الرياضي أن يخفّض خطر الإصابة بنسبة تتجاوز 30 بالمائة.
كما تشدّد على “ضرورة الكشف المبكّر، من خلال الفحص الذاتي المنتظم والتصوير الشعاعي (الماموغرافيا) مرّة كل عامين ابتداءً من سنّ الأربعين”.
تأسست جمعية “نوران” سنة 2016، وهي تعمل على التوعية والوقاية من سرطان الثدي، وتُنظّم كلّ سنة الماراثون الوردي في شهر أكتوبر، بمشاركة ناجيات يقدّمن الأمل والدعم للنساء الأخريات. تُخصّص الجمعية عائدات الماراثون لشراء أجهزة “ماموغرافيا”، للمناطق التي تفتقر إليها، حيث تمكّنت حتى الآن من توفير ثلاث آلات بمناطق مختلفة من البلاد، وإطلاق آلة للتقصّي متنقّلة تصل إلى النساء في المناطق النائية.
اليوميات القاسية للمصابات
“حين سمعوا بأنّني مصابة بسرطان الثدي، شعرت بأنهم جهّزوا كفني وقبري. كان من الصعب عليهم تقبّل الفكرة، ومن الصعب عليّ رؤية نظرة الموت في أعينهم”، بهذه الكلمات بدأت ماجدة اليعقوبي وهي ناجية من سرطان الثدي سرد قصّتها التي تعكس جسارة وانتماء لا محدودا للطبيعة والحياة.
أصيبت ماجدة بسرطان الثدي سنة 2011، أي في خضّم أحداث الثورة التونسية، وهذا ما وجدت فيه ملاذها للهروب من فكرة الموت المُحاطة بها من كلّ مكان فقد كان النضال السياسي بعد الثورة متنفّسًا جديدًا للحياة، فاختارت أن تمنح لوجودها معنى من خلال المشاركة في الحراك المجتمعي وإبراز دورها كمواطنة تونسية متشبّثة بفكرة “المهم ليس كم ستعيش، بل ماذا ستترك وراءك”.
“تفاديتُ عائلتي في تلك الفترة وتفاديتُ بعض الأصدقاء الذين كانت نظراتهم تتمازج بين الشفقة والخوف ووجّهتُ كلّ طاقتي للأثر الذي يُمكن أن أتركه وإلى العلاج الذي استغرق سنة بين العملية والعلاج الكيميائي، ثمّ اتّخذت من الطبيعة ملاذا لي. فقد تنّبهتُ فجأة أنّني لم أكُن أعرف البلد الذي أنتمي إليه، هذا البلد الزاخر بالمناطق الطبيعية والأماكن الجميلة”، تسرد ماجدة لـ”هنَّ”.
مثّل خوف العائلة والنظرة النمطية الاجتماعية بالنسبة إلى ماجدة قلقا يجب تفاديه من أجل صحّة نفسية سليمة، فالمقاومة تستلزم صبرا وإصرارا على النجاة لا يتوفّر عند جميع المصابات خاصّة في المرحلة الأولى من العلاج وهذا يعود إلى أسباب عدّة على غرار المحيط الاجتماعي النمطي للمصابة، الالتزامات المهنية، وأيضا الظروف الاقتصادية التي تفرض نمطا محدّدا على حياة المصابات.
وتتراوح تكلفة العلاج بين 25 ألف دينار و150 ألف دينار للنساء اللواتي لا تتوفّر لديهن شروط التغطية الاجتماعية، والمفارقة تكمن في أنّ نسبة كبيرة من هاته النساء إن لم تكُن تتوفّر لهنَّ التغطية لأنهنّ من طبقة اجتماعية مهمّشة وبالتالي لسن قادرات على دفع تكلفة العلاج.
وهناك طبقية أخرى تُواجه المصابات بالسرطان، وهي العلاج النفسي كمُكمّل للعلاج الدوائي أو الجراحي، والذي لا يُتاح لجميع النساء باعتبار أنّه مُكلف جدّا ولا تشمله التغطية الاجتماعية، وبالتالي كلّ ما تمّ ذكره تواجهه النساء بجسارة وهنّ في مراحل معقّدة من مراحل العلاج.
وتسترسل ماجدة في هذه النقطة حيثُ كانت سندا لشقيقتها التي أصيبت بعدها بالسرطان، وتقول “لقد تكرّرت التجربة برمّتها في داخلي، وهذا مؤلم بالنسبة لي، لكنّني كُنت قويّة من أجل شقيقتي ومن أجل دعمها نفسيّا”.
مازالت ماجدة اليوم تقوم بالمراقبة الدورية بعد أكثر من عشر سنوات من تعافيها متشّبثة بالنضال من أجل ترك أثر في الحياة. لكن، ما توفّر لماجدة سنة 2011 لم يعُد يتوفّر للعديد من النساء اليوم جرّاء نقص الأدوية وفقدانها في بعض المرّات، إذ سجّلت هذه السنة العديد من الوفيات في صفوف نساءٍ لم يجدن دواء للسرطان، وهناك من لجأن للقضاء من أجل الحصول على الدواء بصفة استعجالية.
وحسب المسؤولة عن الإعلام في “الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات”، فتحية السعيدي فإنّه و”رغم عدم وجود الدواء وقلّته وتأخر العلاج إلاّ أنّ محاربات السرطان أبين إلاّ أن يزرعن الأمل ويرسمن الابتسامة ويتحدين الوجع”، وذلك على هامش تحرّك تحسيسي بمرض سرطان الثدي نظّمته مجلة Femmes-Maghrébines تحت عنوان “عرض المحاربات” في نسخته الرابعة الذي من خلاله تم تجميع تبرّعات لفائدة مستشفى صالح عزيز.
الأجساد بين المعافاة والصور النمطية
عندما نسمع شهادات النساء الناجيات من السرطان، نكتشف أنّ كفاح هؤلاء النساء لا يقتصر فقط على مواجهة المرض فحسب، بل يشمل مقاومة نظرة المجتمع التي تحاصر أجسادهنّ وتشكّك في اكتمال أنوثتهنّ وفي جنسانياتهنّ.
وتواجه المصابات بالسرطان كلّ يوم تساؤلات حول مستقبل علاقاتهنَّ الجنسية والزوجية، حول معايير الجسد المثالي، حول الصور النمطية للنساء الجميلات، وحول العديد من الخصوصيات التي تطردهنّ بطريقة غير مباشرة من الفضاء العام.
“ماهو أفضل وأكثر أهميّة بالنسبة للمجتمع: هل معافاتي من السرطان الذي من المحتمل أن يعود أو علاقتي الجنسية؟ الجميع يتحدّث عن الانتباه إلى مناعتي لكنّهم لا يعلمون أنّه بإمكان مناعتي أن تتأثّر بالكلمات والتعليقات القاسية”، كان هذا سؤالا طرحته إحدى الناجيات (رفضت كشف هويّتها) التي تمّ بتر إحدى ثدييها والتي تروي كيف تُشير عائلة زوجها إلى حمّالات الصدر كرمز للعلاقة الحميمية.
تُعيدنا هذه النقطة إلى أهميّة العلاج النفسي أو المتابعة النفسية للنساء الناجيات أو المُصابات، لكن يبقى حاجز الظروف الاقتصادية للنساء سدّا منيعا أمامهنّ وهذا ما يجب التوعية به، فالتحسيس بالتقصّي المبكّر لا ينفي دور المؤسّسات الصحية في توفير متابعة نفسية للنساء، كما أنّ الشركات التجارية التي تستثمر في حدث “أكتوبر الوردي” من أجل مضاعفة المرابيح من شأنها التبرّع مثل بعض المبادرات لتوفير العلاج الذي عجزت الدولة عن توفيره.
“أقرأ تعليقات الجيران والأقرباء في أعينهم، أنني بجسد ناقص وناجية مهدّدة، ما يجعلني أترقّب رجوع المرض وكأنّه أمر طبيعي”، تُضيف الناجية واصفة عدم إمكانية النسيان والمضي قدما داخل مجتمع لا يحترم خصوصية الأفراد ولا تجاربهم.
كما أنّها تصف راحتها التي تجدها عندما تكون ضمن مجموعة من النساء اللواتي مررن بنفس التجربة، أو ضمن المبادرات الجمعياتية التي تهدف إلى التحسيس بالتقصّي دون الاستثمار في أوجاع النساء.
قصص النساء التونسيات المصابات بسرطان الثدي، تكشف أنّ النضال لا يقتصر على مواجهة المرض فقط، بل يشمل مقاومة المعوقات الاقتصادية والاجتماعية والنمطية. من الألم إلى الشفاء، تتحوّل الندوب إلى ذاكرة حياة ورمزًا لإرادة البقاء، بينما يظلّ الدعم النفسي والمجتمعي المفتاح الأساسي لضمان حياة كريمة للناجيات.

















