في المشهد السياسي الليبي، لا يُنظر إلى تعيين النساء في المناصب العليا كمؤشر على التغيير الحقيقي، بل كأداة تخدم مصالح القوى المسيطرة. تجربة نجلاء المنقوش، وزيرة الخارجية السابقة، تعكس هذه الديناميكيات بوضوح، حيث تمت الإطاحة بها بعد أن أصبحت عبئًا سياسيًا، لكنها لم تبقَ صامتة. بل خرجت لتكشف تفاصيل ما حدث، مسلطةً الضوء على الدور المشروط والمحدود الذي يُسمح للنساء بلعبه في السياسة الليبية.
التخلي عن المنقوش.. أزمة مفتعلة أم كبش فداء؟
في أغسطس 2023، كشفت وسائل إعلام عن لقاء غير معلن بين نجلاء المنقوش ووزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين في العاصمة الإيطالية روما. أثار هذا التسريب ردود فعل غاضبة، حيث خرجت احتجاجات صغيرة في طرابلس ومدن أخرى رفضًا لأي خطوة نحو التطبيع مع إسرائيل، خاصة أن القوانين الليبية تُجرّم أي اتصال مع إسرائيل.
وتحت الضغط الشعبي والسياسي، أعلن رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة إيقاف المنقوش عن العمل، والبدء في تحقيق حول الحادثة، في خطوة بدت كأنها محاولة لاستيعاب الغضب الشعبي.
تعليقًا على هذا الموقف، تقول لـ”هنَّ” الناشطة والباحثة النسوية أسماء خليفة: “الحكومة في قرارها هذا غير سوية، استُخدمت المنقوش كغطاء سياسي لتغطية علاقات مع إسرائيل. والقرار الخاطئ، الذي بالتأكيد لم يأتِ من المنقوش وحدها، كان من السهل التضحية بها لأنها لا تُعتبر من الأشخاص الذين لهم الحق الحقيقي في السلطة في ليبيا.”
لكن القصة لم تنتهِ عند هذا الحد؛ بعد أشهر من صمتها، ظهرت المنقوش في برنامج “ذوو الشأن” على منصة الجزيرة 360، حيث أكدت أن اللقاء لم يكن قرارًا فرديًا منها، بل “جاء بترتيب مباشر من حكومة الوحدة الوطنية” التي يقودها الدبيبة.
وقالت المنقوش: “كل ما حدث كان بإشراف مباشر من الحكومة، لم يكن هذا اللقاء قرارًا فرديًا، لكنه كان جزءًا من سياسات حكومة الوحدة الوطنية. تلقيت تعليمات بالمضي قدمًا في هذا اللقاء، والآن، عندما أصبحت الظروف غير مواتية، وجدت نفسي الوحيدة التي تدفع الثمن.”
هذا الاعتراف يعيد صياغة الأحداث، ليكشف أن الحكومة نفسها كانت على علم باللقاء، لكنها استخدمت المنقوش كغطاء سياسي للتنصل من المسؤولية أمام الشارع الغاضب. تصريحاتها هذه أثارت نقاشًا جديدًا حول آليات اتخاذ القرار في ليبيا، وكيف تُستخدم النساء كأدوات سياسية يسهل التخلص منها عند الضرورة.
المرأة في السياسة الليبية.. تمكين مشروط وحدود لا تُتجاوز
تكشف قضية المنقوش عن إشكالية أوسع تتعلق بموقع المرأة في السلطة في ليبيا. فبينما يُنظر إلى تعيين النساء في مناصب وزارية كدليل على التقدم والانفتاح، فإن هذه التجربة تبيّن أن تمكين النساء في المشهد السياسي الليبي لا يزال مرهونًا بخدمة النظام وليس بتغييره.
ترى أسماء خليفة في حديث لمنصة “هنَّ” أن: “النساء في السياسة في ليبيا يحملن إرثًا متناقضًا من أيام القذافي حتى اليوم. كان هناك وجود واضح للمرأة بعد 2011، لكن رافقه دائمًا ضغطٌ وممانعةٌ من أطراف متطرفة كارهة للنساء، قادت حملاتٍ ضخمة ضد تواجد النساء في السياسة.”
وتضيف حول حجم الضغوط التي تواجهها المرأة في المناصب: “عبر السنين، أي خروجٍ واضحٍ وكبيرٍ لامرأة ضد قضية أو حرب، كان يُقابَل بإخفاء قسري، قتل أو اغتيالات. حتى عندما تحدثتُ سابقًا مع مرشحاتٍ في المؤتمر الوطني عن سياسات تخص النساء، أخبرنني أنهن لم يحصلن على مساحة للعمل على أجندتهن الخاصة. المرأة غالبًا تتبع الحزب أو العائلة التي وضعتها في المنصب، أو تواجه تبعات أمنية خطيرة”.
هذه التحديات تجعل تجربة النساء في السياسة الليبية محفوفة بالمخاطر، حيث يمكن أن يتم استغلالهنّ كرموز للإصلاح، لكن دون منحهنّ قوة حقيقية في صنع القرار.
إرث المنقوش.. هل ستفتح الطريق أم ستبقى استثناءً؟
نجلاء المنقوش أضاعت فرصًا عديدة، تقول خليفة في تفصيل رؤيتها بشأن تجربة المنقوش تحديدًا: “فبدلًا من أن تتحمل المسؤولية وتأخذ دورًا قويًا، حاولت إرضاء الدبيبة وإرضاء الرجال المحيطين بها. واقع الحال يقول إن السلطة في ليبيا تعتمد على السلاح والبزنس. النساء يواجهن دائمًا اتهامات الفساد بشكل أسهل وأسرع من الرجال”.
وترى الناشطة والباحثة النسوية أسماء خليفة، في تحليلها للقضية لمنصة “هنَّ” أن “التركيز الإعلامي الكبير على لباس المنقوش، مجوهراتها، رحلاتها، وصرفها، لم يكن بهذا الحجم مع الرجال، الذين يمرون بقضايا فساد أضخم دون التركيز ذاته”.
وكانت المنقوش جزءًا من هذه الديناميكيات، حيث استفادت من النظام القائم لتصل إلى منصبها، لكنها في المقابل لم تتحدى بنيته الأبوية أو القمعية، بل عملت وفق قواعده حتى اللحظة التي تغيرت فيها المصالح السياسية. بمجرد أن أصبحت عبئًا، لم يعد لوجودها في السلطة أي قيمة، وتم الاستغناء عنها دون تردد.
لكن خروجها عن صمتها لاحقًا قد يسلط الضوء على الطريقة التي يُدار بها المشهد السياسي الليبي، وكيف يتم التعامل مع النساء كأدوات سياسية وليس كصانعاتٍ قرار حقيقيات. هل يمكن لهذه القضية أن تكون نقطة تحول في تمكين النساء في ليبيا؟ أم أنها مجرد استثناء يؤكد القاعدة؟
ما بعد المنقوش؟
تجربة نجلاء المنقوش تكشف عن ديناميكيات معقدة في السياسة الليبية، حيث يمكن للنساء أن يصلن إلى مواقع قيادية، ولكن ضمن حدود يفرضها النظام السياسي القائم. وبينما استفادت المنقوش من هذه المنظومة خلال فترة توليها المنصب، فإن إقالتها أظهرت هشاشة هذا التمكين عندما يتعارض مع المصالح السياسية الأوسع.
لكن السؤال الأكبر يبقى: إلى أي مدى يمكن الحديث عن تمكين حقيقي للمرأة في ليبيا، إذا كان دورها في السلطة مرهونًا بإرادة القوى السياسية المسيطرة؟
وهل خروج المنقوش عن صمتها قد يفتح الباب أمام نقاش أوسع حول استغلال النساء في السياسة، أم أنها ستظل حالة فردية في مشهد سياسي يرفض التغيير؟