تزويج القاصرات في تونس.. ظاهرة مستمرة رغم المنع القانوني  

في كل زاوية من تونس، تكتب آلاف الفتيات قصصًا متشابهة من الألم والخضوع في زيجات قسرية، ورغم القوانين التي تحظر تزويج القاصرات، تظل هذه الظاهرة جزءًا من واقع مرير، حيث تتحول الطفولة إلى مسؤوليات مبكرة، والأحلام إلى ذكريات بعيدة.  

ولتزويج القاصرات، قصص إنسانية تعكس معاناة فتيات أجبرن على تحمل أعباء تفوق سنهن. فكيف تستمر هذه الظاهرة رغم المنع القانوني؟ وما الذي يدفع الأسر إلى تزويج بناتهن في سن مبكرة؟  

حكاية رحمة

لم تكن رحمة، الفتاة التونسية البالغة من العمر 18 عامًا، تعلم أنها تزوجت دون السن القانونية المنصوص عليها في مجلة الأحوال الشخصية التونسية، وهو 18 عامًا. ولم يطلب عدل الإشهاد الذي أشرف على زواجها دون أي ترخيص إذن قضائي، وفقًا لشهادتها.  

التقت منصة “هنَّ” برحمة في إحدى المصحات الخاصة، حيث كانت تحمل طفلها البالغ من العمر ثلاثة أشهر. بين الدموع، حاولت إسكات طفلها الذي كان يصرخ دون توقف.  

قرر عدل الإشهاد الذي زوّج رحمة تجاهل الأشهر القليلة الناقصة من عمرها، -سواء بإيعاز من أسرتها أو بمحض إرادته-، وعقد قرانها دون السن القانونية مع تسجيل العقد لاحقًا. 

وبالنسبة له، لم تكن الأشهر القليلة الفارقة بين 17 و18 عامًا ذات أهمية.  

رحمة تعتبر نفسها في “الموقع الصحيح”، وأنها لم تعد طفلة بعد أن انقطعت عن الدراسة. لكن قصتها ليست فريدة، فزواج القاصرات في تونس ظاهرة مستمرة رغم المنع القانوني.  

القانون بين النص والتطبيق

لا يُعد زواج رحمة، التي لم تبلغ السن القانونية، حالة استثنائية في تونس. فبحسب الإحصائيات الرسمية، يتواصل تزويج الفتيات دون سن 18 عامًا سنويًا. 

وتنص مجلة الأحوال الشخصية التونسية، الصادرة في أغسطس 1956، على أن السن القانونية للزواج هي 18 عامًا. ويُمنع عقد زواج لمن لم يبلغ هذه السن إلا بموافقة ولي الأمر وإذن خاص من رئيس المحكمة الابتدائية، وذلك لأسباب خطيرة ولمصلحة واضحة للزوجين.  

ومع ذلك، يلجأ بعض عدول الإشهاد إلى تجاوز هذه القوانين، مستندين إلى “الرضائية” بين العائلتين والمعنية بالأمر.  

ورغم انخفاض عدد عقود زواج القاصرات في تونس من 707 عقد سنة 2014 إلى 119 عقد سنة 2022، إلا أن الظاهرة لا تزال قائمة. 

وتشير تقارير “اليونيسف” إلى أن نسبة زواج القاصرات في تونس لا تتجاوز 2 بالمائة، وهي النسبة الأدنى في شمال إفريقيا والمنطقة العربية، حيث تصل النسبة إلى 32 بالمائة في اليمن و52 بالمائة في السودان.  

ورغم التراكمات التي حققتها الحركة النسوية، والتغيرات التي شهدها المجتمع التونسي على مستوى الفكر والوعي الجمعي، بالإضافة إلى التطور الاجتماعي والاقتصادي للنساء، لا يمكن القول إن ظاهرة تزويج القاصرات قد اختفت تمامًا، أو أن القانون يمنعها بشكل قاطع. 

ففي أغلب الأحيان، تنتصر العقلية الاجتماعية والثقافة التقليدية على ما هو قانوني وحمائي للفتيات، على الرغم من اعتبار زواج الأطفال والزواج القسري انتهاكًا لحقوق الإنسان وممارسةً ضارة تؤثر بشكل غير متناسب على النساء والفتيات عالميًا، مما يمنعهن من عيش حياتهن بعيدًا عن أي شكل من أشكال العنف، وفقًا لتقارير المفوضية السامية لحقوق الإنسان حول المرأة والمساواة بين الجنسين.

ويؤكد أحد القضاة، الذين عُرضت عليهم طلبات إذن لزواج قاصرات، في حديثه لمنصة “هنَّ”، أن “القاضي يجد نفسه في كثير من الأحيان محرجًا ومجبرًا على الموافقة على طلب الإذن بالزواج”. ويضيف: “في العديد من الحالات، تأتي الفتاة مزينة كالعروس، مخضبة بالحناء، ومستعدة تمامًا لإتمام زواجها، ولا تنتظر سوى تصريح القاضي، الذي قد يُغلّب العقلية الاجتماعية على القانون، رغم أن هذا الأخير يسمح له بمنح الإذن فقط في الحالات القصوى ولأسباب خطيرة، عندما يكون هناك مصلحة واضحة للزوجين”.

ويشير القاضي الذي تكتم على ذكر اسمه، إلى أنه، رغم أن المشرّع التونسي “حسم هذه المسألة منذ عقود عبر مجلة الأحوال الشخصية، ثم عبر القانون عدد 58 المتعلق بالقضاء على العنف ضد المرأة، الذي منع تزويج الأطفال وربطه بسن الرشد القانوني (18 عامًا)، فإن تزويج القاصرات لا يزال مستمرًا”.

ووفق المتحدث، “يرجع ذلك إلى تفويض القاضي سلطة التقدير في هذه الحالات، حيث يستند في قراره إلى معطيات ذاتية، مثل بلوغ الفتاة ونضج بنيتها الجسدية، بالإضافة إلى الوضع الاقتصادي للرجل، وما إذا كان قادرًا على الإنفاق عليها أم لا”.

الأسباب والتداعيات

في قلب الأحياء الشعبية والقرى النائية، تتردد قصص متشابهة لفتيات قاصرات وجدن أنفسهن في دوامة الزواج المبكر. بعضهن انقطع عن الدراسة بسبب الفقر، فتحول الزواج إلى “مخرج” للأسرة من أعباء اقتصادية ثقيلة. 

وهناك أخريات وقعن ضحايا لعلاقات خارج نطاق الزواج أو حتى اغتصاب، فتحول الزواج إلى “غطاء” يخفف من وطأة الفضيحة الاجتماعية.  

وفي بعض الحالات، تتحول الفتاة القاصر إلى “سلعة” تُباع لرجل ثري، سواء لتحسين الوضع المادي للأسرة أو للحفاظ على الإرث العائلي. 

وفي أحيان أخرى، يرى الأهل أن الزواج هو الحل الأمثل لضمان “مستقبل” الفتاة، خاصة إذا كانت غير متعلمة أو تعاني من ظروف اجتماعية صعبة.  

ولكن هذا الزواج، الذي يُفترض أن يكون “مخرجًا”، غالبًا ما يتحول إلى كابوس؛ فتيات في سن المراهقة يجدن أنفسهن أمام مسؤوليات تفوق طاقتهن، كرعاية الأطفال، وعلاقات زوجية غير متكافئة، وحياة مليئة بالقيود.  

كما أن صحتهن تتعرض للخطر، فالحمل في سن مبكرة يزيد من احتمالات الإجهاض وتسمم الحمل، وقد يؤدي إلى وفاة الأم أو الطفل. نفسيًا، يعانين من صدمات عميقة بسبب العنف الجسدي أو النفسي الذي يتعرضن له، خاصة إذا كن متزوجات من رجال يكبرهن بعشرات السنين.  

والتعليم، الذي كان من المفترض أن يكون مفتاحًا لمستقبل أفضل، يصبح حلمًا بعيد المنال. الفتاة التي كانت تحلم بأن تصبح طبيبة أو معلمة تجد نفسها محصورة في دور الأم والزوجة، دون فرصة لتطوير مهاراتها أو تحقيق طموحاتها.  

إشكالية الإذن القضائي 

رغم الجهود التشريعية والاجتماعية، لا تزال ظاهرة تزويج القاصرات في تونس تمثل تحديًا كبيرًا. وتؤكد المنظمات الحقوقية أن زواج الأطفال يهدد حياة ومستقبل الفتيات، ويدعو إلى ضرورة تعزيز الوعي المجتمعي وتشديد الرقابة على تطبيق القوانين.  

وتعبر نجاة عرعاري، الباحثة في علم الاجتماع والناشطة النسوية، في تصريح لمنصة “هنَّ”، أن تزويج القاصرات “ظاهرة ما زالت موجودة في تونس رغم المنع القانوني، وتعود أسبابها إلى عوامل اقتصادية واجتماعية وثقافية”.

ومن جانبها، تؤكد المحامية هالة بن سالم، الكاتبة العامة للجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، على “أهمية التشريع التونسي في الحد من هذه الظاهرة”، لكنها تشير إلى أن “الإذن القضائي لا يزال يمثل إشكالية، خاصة أنه لا يقبل الطعن”. 

وعلى الرغم من القوانين التي تحظر تزويج القاصرات، تظل هذه الظاهرة جزءًا من واقع مرير تعيشه العديد من الفتيات في تونس. 

ويظل السؤال الذي يطرح نفسه: هل يمكن لهذه القصص كحالة رحمة وغيرها أن تتغير؟ أم أن العادات الاجتماعية والضغوط الاقتصادية ستستمر في إجبار الفتيات على التخلي عن طفولتهن وحلمهن في حياة أفضل؟  

اقرأ أيضا

  • روبورتاج| تعليم أبناء المهاجرين في موريتانيا.. حق مكتسب أم حسنةٌ إنسانية؟ 

    مدرسة صغيرة في شمال موريتانيا، تقوم بتقديم دروس مجانية لمئات الأطفال من عشرين دولة إفريقية وصلت عائلاتهم إلى نقطة مدينة نواذيبو الساحلية، والشهيرة بانطلاق قوارب الهجرة إلى أوروبا، تحديدًا جزر الكناري الإسبانية. تتلو مريم دروس الجمع والطرح كما لو كانت ابتهالا دينيا، بينما يشير ثيوفيل ميرلين، مدرس الرياضيات، بمسطرة إلى السبورة، فيما يندفع الأطفال مع…

    ليلى محمد|

  • المغرب وموريتانيا وتونس.. احتجاز واضطهاد المهاجرات  والمهاجرين بتمويل أوروبي 

    طورت كل من المغرب وتونس وموريتانيا "نظاما" ضد الهجرة غير النظامية؛ يتم فيه "احتجاز وإبعاد آلاف المهاجرين من ذوي البشرة السوداء وتركهم في المناطق الصحراوية"، وفقا لتحقيق استقصائي شاركت فيه مجموعة من الصحف الدولية. وذكرت مجلة "دير شبيجل" الألمانية، التي شاركت في هذا التحقيق الصحفي مع المنظمة الهولندية غير الحكومية "Lighthouse Reports" وثماني وسائل إعلام…

    Hounna | هنّ|

  • “يمنعن من أن يكن نساءً”.. أساليب “إهانة وإذلال” السجينات في تونس

    رغبة المعتقلة سنية الدهماني، المعلقة الإعلامية التونسية، في الحضور أمام المحكمة وهي تنتعل حذاءً بدل الخفين جوبه بالرفض، كما منعت من مغادرة السجن دون ارتداء اللحاف التقليدي المعروف بـ"السفساري"، حيث أصر أعوان السجون على إخضاعها لتفتيشٍ معمق لجسدها، شمل المناطق الحساسة منه، وبسبب ما استغرقه كل ذلك من زمن، تم إعلامها في النهاية، أنها تأخرت…

    ريم بلقاسم|

  • ألم الهوية وجرح المجتمع.. قصة متحولة جنسية مع العادات والقوانين في موريتانيا 

    من موريتانيا، حيث يتراءى لك شظايا الماضي في عيون الناس وعاداتهم الراسخة، هربت مريم، فمع كل خطوة كانت تخطوها في بلاد المرابطين كانت تشعر وكأنها تحمل عبئاً ثقيلًا فوق قلبها؛ في عالم يتربص فيه الخوف من الآخر، لاسيما وأن مريم امرأة محاصرة بين هويتها الجندرية الحقيقية والمجتمع الذي يرفضها؛ فهي هي واحدة من الكثيرات اللاتي …

    سلطانة خليفة|

  • الفيديوهات

  • “لم نتوصل بالدعم”..نساء الحوز يكشفن الوجه الآخر لإهمال ضحايا الزلزال

    يبدو أن بلدة مولاي إبراهيم بإقليم الحوز، جنوب مدينة مراكش، لن تتعافى قريبا من تبعات الزلزال الذي بعثر سبل العيش هناك، خاصة أن أغلب سكان البلدة كانوا يعيشون على نشاط السياحة الداخلية التي يجلبها ضريح مولاي إبراهيم، فالتجارة والإيواء وخدمات أخرى توفرها الساكنة، خاصة نسائها، توقفت اليوم بشكل كلي، ولا أمل يلوح في الأفق لعودة…

  • محاكمة عسكرية للمعارضة التونسية شيماء عيسى

    لم تغلق المحكمة العسكرية بعد، ملف محاكمة شيماء عيسى، المعارضة التونسية والقيادية في جبهة الخلاص الوطني، فقد تم تأجيل جلسة، محاكمتها إلى 10 أكتوبر، القادم.

  • ختان البنات موروث ملطخ بالدم

    تنتشر ظاهرة ختان الإناث بصورة كبيرة في عموم مناطق موريتانيا، إذ تحتل البلاد المرتبة الثامنة عالمياً. ويعتبر ختان البنات موروثاً وتقليداً في المجتمع الموريتاني ويهدف إلى المحافظة على عذرية البنات و"تهذيب شهوتهن" الجنسية، وفقا للمدافعين عنه بينما تشجب فئات اجتماعة أخرى في البلاد هذه الظاهرة.

  • فاطنة بنت الحسين.. أسطورة العيطة وأيقونة الفن الشعبي في المغرب

    ولدت فاطنة بنت الحسين في منتصف الثلاثينات بمنطقة سيدي بنور، التابعة لدكالة، من عائلة قروية محافظة رفضت ولوجها مجال الغناء، نظرا للسمعة السيئة التي كانت ملتصقة بـ"الشيخة" وقتها. انتقلت فاطنة إلى مدينة اليوسفية، وهناك انضمت إلى فرقة "الشيخ المحجوب"، وزوجته "الشيخة العبدية"، لتحصد شهرة واسعة وصل مداها إلى مدينة آسفي، معقل "العيطة الحصباوية"، وبعدها مدينة…

  • ناسجات الحياة.. نساء بالحوز ينسجن الزرابي بين أنقاض الزلزال

    بالقرب من مركز جماعة أسني بإقليم الحوز، اجتمعت أربع نسوة بدوار "أسلدا" ينسجن الزرابي، بحثا عن مورد رزق، في كوخ من القصب ومغطى بالبلاستيك وورق التعليب، بعد أن دمر الزلزال المكان الذي كن يشتغلن فيه، والذي كان مقرًا لـ"جمعية الدوار"، قبل أن يحوله الزلزال إلى أطلال. في البداية، تحديدًا قبل ثلاثة سنوات من جائحة "كورونا"؛…

  • منع مسيرات تضامنية مع فلسطين “دعم لجرائم الإبادة”

    🟠 منعت مسيرات احتجاجية ضد العدوان الإسرائيلي، تخليدا ليوم الأرض الفلسطيني، نهاية الأسبوع الماضي، من طرف قوات الأمن في عدد من المدن المغربية، ما خلف تنديدا واستنكارا واسعينِ من طرف المشاركين في تلك الاحتجاجات.

  • العاملات الفلاحيات هنّ الأكثر تضررا من التغيرات المناخية

    🔶تعاني الدول المغاربية منذ سنوات من الجفاف على مدار السنة ، ما فاقم نسبة الفقر عموما بهذه الدول وخاصة لدى النساء، وفقدت آلاف العاملات في مجال الفلاحة مورد رزقهن.