لايزال إدماج المرأة التونسية في سوق العمل ناقص للغاية، رغم أن حضور النساء في تونس موجود في كل المجالات وفي كل المهن; محاميات، طبيبات، معلمات وغيرها من المهن، لكنهن لا يشكلن سوى 30 بالمائة في سوق العمل، على الرغم من أنهن الأفضل تعليمًا بالبلاد، فهن يشكلن الأغلبية في التعليم، خاصة التعليم الجامعي، حيث يبلغ عدد النساء ضعف عدد الرجال تقريبًا.
ورغم قلة عددهن في سوق الشغل، إلا أن في تونس نساء لم يستسلمن، بل قررن سلك طرقهن بأنفسهن متحديات واقعهن، ومقتحمات جبهات كانت حكرًا ذكوريا خالصًا.
في هذا التقرير، تسلط منصة “هنَّ”، الضوء على ثلاث قصص مختلفة، بطلاتها نساء أبين إلا أن يكن فاعلات وقادرات على قلب موازنات الحاجة والفقر، من أجل التخفيف من وطأة ضيق الحال، ومُخلفات الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تضغط أكثر فأكثر على معيشة التونسيين وخاصة على العائلات محدودة الدخل والفقيرة.
منيرة، مريم وثريا، ثلاث نساء استغلت كل واحدة منهن شهر رمضان للعمل في إطار مهن هامشية وغير مهيكلة.
يواصل منوال التنمية الرسمي تجاهلها ويرفض تغيير صبغتها.
“أم طبيلة”.. مسحراتية رمضان
“أفرح كثيرًا بحلول شهر رمضان، شهر الخير، فخلاله وبفضل الذي أحصل عليه من مهنة ’بوطبيلة‘، يمكنني ضمان مدخول إضافي للبيت وشراء كل ما تشتهيه والدتي.. الحمد لله أنا بصدد العمل وتحصيل لقمة عيشي”، بهذه الكلمات تفتح منيرة حديثها لـ”هنَّ”، وهي تروي تجربتها مع مهنة “بوطبيلة”، وهو “المسحراتي” في تونس.
ورثت منيرة مهنة “بوطبيلة” عن والدها، الذي امتهنها لأربعين عاما، وبعد وفاته وأمام عدم قدرتها على تغطية حاجياتها لم تتردد في تأنيث هذا العمل الذي كان قبلها ذكوريًا بالأساس، واليوم أصبحت بفضل جرأتها “أم طبيلة” و”مسحراتية” دون منازع.
يوميا ومنذ الليلة الأولى لشهر الصيام، لا يثنيها تعب المهنة ولا سهر الليالي، إذ تنطلق منيرة بطبلتها التي تتقن جيدا النقر عليها; بداية من الساعة الثالثة صباحا حتى موعد آذان الفجر; تجول في تلك الساعات شوارع إحدى محافظات مدينة سوسة الساحلية، من أجل إيقاظ النائمين لتناول السحور قبل بدء صوم النهار.
منيرة أصبحت جزءًا مهمًا من تقاليد رمضان، فالجميع في حيها وفي الأحياء التي تجاورها، يعرف جيدا صوتها الرنان وطبلتها التي يتحول النقر عليها من دعوة للقيام للأكل والشرب، في العديد من المرات; إلى موسيقى راقصة يتمايل عليها شباب الحي من الساهرين.
مهنة “المسحراتي” تمثل روح رمضان، وجزءًا أصيلاً من تقاليده، وهي مرتبطة في المخيال الجمعي المتوارث بالرجال، وليس من السهل بمكان على امراة اقتحامها، “البداية كانت صعبة فلم يتم تقبلي في مهنة الرجال لكن اليوم وبعد سنوات أصبحت معروفة، ألقى الترحيب والاحترام من الجميع”، تؤكد منيرة لـ”هنَّ”.
الخبز صناعة لـ”فرحة ابني بالعيد”
تنزل مريم صانعة الخبز، منذ بداية شهر رمضان الى السوق البلدي لبيع منتوجها الذي تصنعها يوميا في فرنها المنزلي، تدعمه في العديد من المرات ببعض من ورق “البريك” (مقبلات تونسية لا تغيب عن موائد الصائمين في رمضان) وبعض المعجنات التقليدية كـ”النواصر” و”الحلالم” الذي تشتريه أحيانا من إحدى جاراتها في محاولة منها لتحصيل دخل أفضل، وتجميع مبلغ يغطي كلفة كسوة العيد لطفلها البالغ من العمر أربع سنوات.
مريم البالغة من العمر 34 عامًا، وفي حديثها لـ”هنّ”، تؤكد أن “النفقة التي حكمت لي بها القاضية بعد طلاقي، تغطي بصعوبة مصاريف طفلي وحاجتنا من الأكل، لذلك أعمل في رمضان منذ سنتين، أرفض أن أمد يدي لطليقي”.
“أعمل بعرق جبيني، على الرغم مما أواجهه من صعوبات في الحصول على الدقيق، وما أتحمله من نظرة دونية واتهامية من الشارع والجيران والأقارب… ففي النهاية ما يهمني هو أني سأشتري فرحة إبني بلباس العيد بتعبي وجهدي”، تضيف مريم.
البهارات هروبا من طعم البطالة
غير بعيد عن مريم، ووسط السوق البلدي جلست ثريا صحبة ابنتها ذات التسع سنوات، أمام طاولة زيّنت بعراجين من الفلفل الأحمر الجاف، ورق الغار والإكليل، رتبت عليها مجموعة من القفاف ممتلئة بأنواع مختلفة من البهارات التي كتبت عليها “دياري” ( صنع منزلي).
نظرت إلينا ابنتها بفرح طفولي، وبدأت تُعرِّفُ بمنتوجاتهما المعروضة أمامها، كانت تسمي كل شيء بمعرفة دقيقة، بينما كانت الأم تراقبها وتتابعها بابتسامة إعجاب.
ثريا، خريجة “المعهد العالي للمسرح”، عاطلة عن العمل منذ أكثر من عشر سنوات، وزوجها حاصل على شهادة الأستاذية (الإجازة) في الفيزياء، لم يحالفه الحظ للعمل في الوظيفة العمومية، فاتجه إلى تقديم الدروس الخصوصية لضمان مورد رزق لعائلته.
أما مريم، وبسبب طبيعة تخصصها وضيق أفق التشغيل فيه، فقد اختارت أن “أتفنن في صنع البهارات للمطبخ التونسي المتميز… لم أنجح في أن أكون أستاذة مسرح لكني نجحت في إعطاء نكهة لأكل التونسيين والتونسيات”.
هروبا من طعم البطالة المر في حلق من كانت ستكون أستاذة مسرح، اختارت ثريا أن تجابه الواقع ببيع البهارات، بحثا عن لقمة عيش تضمن الستر والكرامة، “واليوم أنا بصدد المساهمة مثلي مثل زوجي في توفير حاجيات منزلنا ومصاريف تعليم ابنتنا”، تقول لـ”هنَّ” وهي تغمز بعينها.
هذا، وتبلغ نسبة مساهمة المرأة التونسية في العمل غير المنظم 30 بالمئة، ورغم أن هذه النسبة هي الأدنى مقارنة بباقي البلدان العربية، إلا أن تناميها في السنوات الأخيرة يعكس ثقل وقع الازمة الاقتصادية على النساء ويؤكد غياب سياسات اقتصادية عادلة دامجة لهن.
و”يشكل العمل غير المنظم الذي يتسم بتدني أجوره وانعدام الحماية وغياب الظروف الصحية نسبة 50 بالمائة من العمل الإجمالي بالبلدان العربية وتمثل مساهمة النساء الجزء الأكبر فيه”، حسب التقرير السابع لـ”تنمية المرأة العربية” لسنة 2019 الصادر عن “مركز المرأة العربية للتدريب والبحوث” تحت عنوان “المساواة بين الجنسين في أجندة 2030: دور المجتمع المدني”.