لم تكن الكتابة النسائية يوماً مجرد انعكاس لتجربة فردية، بل هي امتداد لحركة اجتماعية وثقافية تسعى لكسر القوالب النمطية وإعادة تشكيل الوعي الجمعي. فمنذ عقود طويلة، خاضت المرأة معركة الحضور في المشهد الإبداعي، متجاوزة قيود التقاليد ومحدودية الفرص، حتى بات صوتها جزءاً لا يتجزأ من النسيج الأدبي والفكري المغربي. ومع ذلك، فلا تزال التساؤلات تُطرح اليوم حول طبيعة هذا الحضور والتحديات التي تواجه الكاتبات المغربيات.
أقلام نسائية بين قيود المجتمع وتحديات النشر
تصف الشاعرة والأستاذة بكلية الآداب في جامعة تطوان، سعاد الناصر حضور المرأة المغربية في المشهد الأدبي اليوم بـ”الوازن”، معتبرة أن المرأة المغربية “استطاعت أن تكسّر حواجزًا كثيرة، وتحتلّ مساحاتٍ شاسعة من هذا المشهد، وتقدم إضافات نوعية للمنجز الأدبي المغربي، لها خصوصية نابعة من مجموع القيم الثقافية والجمالية والاجتماعية، ومن ارتباطها بمستجدات الواقع ومتغيراته”.
وتضيفالناصر أن “الكاتبة المغربية لا زالت تتطلع نحو مساحات أوسع من أجل العمل على الانخراط أكثر في تأسيس متخيّل إبداعي له إمكاناته الجمالية والمعرفية والتحررية أيضا. والطريق فعليا لا يزال أمامها طويلا في ظل التحديات التي تواجهها”.
ومن أبرز التحديات التي تواجه المرأة الكاتبة، تضيف المتحدثة نفسها في حديثها لـ”هنّ”: “عدم الوعي بمؤهلاتها من جهة، وبهيمنة الصورة النمطية الاجتماعية والثقافية المترسخة في الأذهان عنها وعن دورها في الحياة من جهة أخرى، وهنا تسقط كتاباتها في التهميش والتجاهل وغياب النقد الحقيقي. ولا يمكن أن نغفل عن التحديات التي تواجهها من أجل أن توازن بين دورها زوجة وأما، وما يترتب عنه من استنزاف للوقت والجهد، وبين التفرغ للكتابة، وما تحتاجه من تحفيز وصفاء ذهن”.
أما بالنسبة للتحديات المتعلقة بالنشر، تتابع الناصر، فـ”التحديات التي تواجهها هي تقريبا مثل ما يواجهه الكاتب الرجل، ولذلك نجد أن التحدي الأكبر لكلاهما يكمن في الأوضاع الاقتصادية للقارئ المغربي عامة، وفي استغلال دور النشر الكبيرة لهما”.
وتردف الأستاذة التي كانت منسقةً لماستر عن الكتابة النسائية، أن “الكتابة فعل إنساني بغض النظر عن كاتبه، ينبغي أن يتم تحديده من داخل الكتابة نفسها. وعلاقة المرأة بالكتابة علاقة محملة بأسئلة متعددة ومختلفة، منذ أن أعلنت أنها لم تعد موضوعا وإنما فاعلة منتجة للخطاب، عكست خصوصية خاصة بها. وبالتالي لا يمكن بحال أن يحدّ مصطلح الكتابة النسائية من قيمة الأدب الذي تكتبه، لأن قيمته تُعرف من خلال قدرة المرأة على تشكيل نصِّها الإبداعي، الذي يستطيع إثبات جماليته ووجوده وهويته وكينونته، من خلال استحضاره لسؤال الجمال والإبداع”.
إبداع نسائي مغربي ينتظر الاعتراف والدعم
من جهتها ترى الكاتبة والروائية بديعة الراضي أن “الحضور الأدبي النسائي المغربي في الحقل الثقافي بصفة عامة هو حضور بارز يسجله الكم الهائل من النصوص الإبداعية التي تعزز هذا المشهد بأسماء في مختلف الأجناس التعبيرية ،في المسرح والشعر والرواية والنقد والبحوث التاريخية والأنثروبولوجية والمعرفية والعلمية”. مضيفة أن “هذا المجال عرف تطورا كبيرا .وإن كانت بعض الأدبيات لم ينشرن نصوصهن واكتفينا بالمساهمة في مواقع التواصل والمشاركة في مهرجانات بتقديم نصوص على مستوى الإلقاء، فإن بروز هذه المتون الأدبية في حد ذاته يستحق القراءة النقدية وخلق مشاريع للنشر ودعمها في القطاعين العام والخاص”.
وأوضحت رئيسة رابطة كاتبات المغرب في تصريحها لمنصة “هنّ”، أن “الرابطة منذ تأسيسها سنة 2012، عملت على وضع مشروع يعي الحاجة إلى دعم الكاتبة المغربية وتشجيعها والبحث في كافة السبل لإخراج إبداعها إلى الوجود وخلق فرص نشره والتعريف به ضمن شراكات مؤسساتية خاصة وعامة”. مضيفة أنهن “عملن على جعل الرابطة الفضاء الثقافي النسائي الذي نساهم من خلاله في النهوض بشأننا الثقافي وانخراط الكاتبة المغربية في أسئلته وتحدياته، ومن هذا المنطلق استطعنا كجمعية فاعلة أن نتواجد تنظيميا في كافة الجهات والأقاليم” .
جيل جديد من الكاتبات يبحثن عن “غرفة تخصهن” في العالم الرقمي
هدى الشماشي، وهي قاصة وكاتبة شابة، تعبر عن سبب فخرها بما تقدمه الكاتبات المغربيات الشابات اليوم قائلة: “أولا بتنا نشهد أكثر وأكثر إنتاجات أدبية من توقيعهن، وثانيا لأن الكثير من هذه الأعمال ينضح بأصالته الخاصة كصوت له خصوصيته الثقافية وقضاياه وقصصه التي يريد أن يقولها للعالم”.
“ومع ذلك فإننا نلاحظ أن مقارنة بسيطة لإنتاجاتنا الأدبية المغربية من حيث الكم ستجعلنا نلمس رجوحا لكفة الكتاب من الرجال، وهذا أمر يؤسفني. ربما أن النساء في بلادنا لم يتحصلن بعد بما يكفي على ” غرف تخصهن وحدهن” كما تقول فيرجينيا وولف، وهذا نقاش يقودنا إلى مفترق طرق تمتزج فيه الجوانب الحقوقية والقانونية والثقافية، وإلى التفكير في مسار تمكين المرأة المغربية الذي لا زالت تعترضه الكثير من المطبات”، تضيف الشماشي.
وعن تجربها في النشر الرقمي، تشرح الكاتبة لـ”هنّ”: “منذ البداية فكرت أن النشر عبر المدونات والمجلات الأدبية سيمنحني وصولا أفضل للمتلقي، خاصة مع تزايد أعداد الذين يفضلون القراءة على منصات الأنترنيت فنحن في زمن يختلف عن زمن سابقينا بالنهاية. يمنح هذا أيضا فرصة لخلق نوع من التفاعل السريع مع القراء وهو تفاعل مثمر وفعال وأتعلم منه غالبا.
أما الصعوبات، فهي وفق الشماشي، “تتعلق في العادة بالتابوهات، ولسبب ما فإن أغلب هذه المواضيع “المحرمة” يخص النساء وحياتهن وتجربتهنّ. نعرف مثلا أن أغلب المجلات الورقية العربية الرصينة التي قد يتهافت عليها الكتاب الشباب وغيرهم تفرض معايير صارمة فيها نوع من ‘الطهرانية’ الأخلاقية المتجاوزة جدا، وهذا قاتل للإبداع من ناحية، كما أنه يجعل المبدع يقيم على نفسه مقص الرقابة حتى أثناء العملية الإبداعية لأن الكاتب يريد أن ينشر عمله ويقرأ طبعا”.
وعن رأيها في مصطلح “الكتابة النسائية” تقول الشماشي أنه وبعيدا عن الجانب النظري للتسمية فـ”إننا نصطدم بحقيقة بسيطة: يتوقع القراء في كثير من الأحيان نوعية محددة من المواضيع من الكاتبات، وقد يستغربون أحيانا بسبب ذهابهن إلى خارج هذه التصنيفات التي هي قيد أيضا، إذ يمكن للمرأة طبعا أن تكتب عن أي شي ما دام ذلك هو ما تريد القيام به بالفعل”.
وتضيف موضحة: “أتذكر هنا أن مارغريت أتوود قد كتبت أن كاتبا شهيرا عبر عن أنه لا يستلطف أعمال أليس مونرو لأن كتابتها لا تتوافق مع ما يعتبره هو ” كتابة نسائية”، فنبرتها هادئة أكثر مما ينبغي ولا يبدو أنها تخوض حربا شرسة من أي نوع اتجاه مضطهديها من الرجال. هذه تصنيفات غير معقولة طبعا، لأن الأدب هو الأدب، ويمكن للنساء أن يمنحن صوتهن للتعبير عن قضايا الإنسان بالشكل الذي يرغبن به ويناسب تجربتهن الإبداعية ورؤيتهنّ للكتابة والعالم”.
جهود مستمرة رغم التحديات
هذا، ورغم التطورات التي شهدها المشهد الأدبي المغربي، لا تزال الكاتبات المغربيات يواجهن تحديات تتراوح بين القيود المجتمعية، وصعوبات النشر، وهيمنة التصنيفات النمطية.
ومع ذلك، فإن الجهود المستمرة للأديبات، ودعم المنظمات الثقافية، إضافة إلى ظهور منصات النشر الرقمية، تسهم في تعزيز حضور المرأة المغربية في الأدب، بما يعكس تنوع رؤاها وإسهاماتها في إعادة تشكيل السرد الأدبي المغربي.