وسط معهد صالح عزيز، تعج قاعات الانتظار بالمرضى منذ الساعات الأولى للصباح، وتشهد ممراته حركة عالية بتقدم الوقت واقتراب مواعيد انطلاق العيادات؛ هنا أطباء وممرضين، مرضى وزوار، ومرافقين وأطفال وباعة متجولون، وهناك في نهاية الممر، يستقر قسم الجراحة أين تقدم كشوفات سرطان الثدي، وهو الجزء الأكثر اكتظاظا داخل المشفى.
في قسم الجراحة، تضطرّ النسوة للجلوس على الأرض في انتظار دورهن للكشف، وتمتلئ القاعة بكل الأعمار، بداية من شابات دون العشرين وصولا إلى سيداتٍ تجاوزن السبيعن. ويطغى على الجو العام إحساس من عدم الرضا؛ وبما أن الوقت يتزامن مع “أكتوبر الوردي”، وهو شهر التوعية والكشف المبكر على سرطان الثدي، فهنَّ ينتظرن أن تكون الخدمات أسرع وأفضل.
وتقول أنيسة البالغة من العمر سبعًا وأربعين عاما، والقادمة من مدينة جندوبة شمال البلاد لمراجعة الطبيب، في حديثها لـ”هنَّ”: “انتظرت أشهر ليأتي دوري في الالتحاق بقسم الجراحة بمستشفى صالح عزيز وسط العاصمة، وأنا اليوم بصدد تلقي العلاج بالأشعة بالتناوب مع العلاج الكيميائي”.
وتوضح أنها اكتشفت إصابتها بالسرطان “منذ حوالي سنة، وذلك بفضل قوافل الكشف المبكر، لم أظفر بموعد قريب مع الطبيب المختص في الأورام بمستشفى صالح عزيز، كما أني انتظرت طويلا موافقة الصندوق الوطني للتأمين على المرض لأتحصل على أدوية علاج السرطان.. وهو ما جعلني انطلق في العلاج متأخرة نسبيا”.
ورغم ما تواجهه من تعب لم تخف أنيسة فرحها بالنتائج الإيجابية التي حققتها خلال شهر واحد من العلاج: “لقد خلقت من جديد.. فقدت شعري وجزءًا كبيرا من وزني.. لكني استعدت حياة قد تمتد لسنة أو سنتين أو ربما أكثر… أصبحت لي فرصة البقاء مع أبنائي وعائلتي مرة اخرى”.
وعلى خلاف البقية كانت مفيدة، بسنواتها الستين، تبتسم للجميع وتحاول تهدئة من يفقد صبره من الانتظار، فهي تعرف الفضاء جيدا، حيث تزور القسم منذ نحو الثلاث سنوات. وها قد عادت اليوم من أجل رحلة علاج جيدة، نظرا لأن آخر فحوصات كشفت انتشارا جديدا للورم.
لا تعترض مفيدة على حكم الله ولكنها “تعبت من الانتظار وسفرات القطار وفقدان الأدوية، وحصص العلاج المتأخرة وقلة ذات اليد التي تجعل من الصعب شراء جرعات الدواء الذي يمكنني من ربح الوقت والجهد والصحة”، تقول مفيدة موضحة، قبل أن تختم حديثها، وهي تحمد الله على ما ابتلاها به من مرض وترجوا الشفاء للجميع.
وتمتنع الجالسة بجانب مفيدة عن الحديث مع “هنَّ” مع اعلان الممرضة عن انطلاق الكشوفات ودعوتها للاسماء الخمسة الأوائل في التسجيل للالتحاق بقاعات الكشف.
وتمثل حالات الإصابة بسرطان الثدي ثلث مجموع السرطانات التي تصيب النساء في تونس، وطبقا لآخر الإحصائيات الصادرة عن السلطات الصحية في سنة ،2022 “ارتفع معدل الإصابات بهذا المرض من 3 آلاف حالة سنويا إلى 4 آلاف حالة سنويا”.
ويتفق مختلف المختصون الذين استشارتهم “هنَّ” على أن العدد “يتجه نحو مزيد الارتفاع في السنوات القادمة”، ومن الضروري أنيتم التركيز أكثر على الكشف المبكر وتحسيس النساء والفتيات بأهمية اكتسابهنَّ لمستوى من الوعي يجعلهن قادرات على التفطن للاصابة بمجرد حصولها”.
وكشفت منسقة البرنامج الوطني لمكافحة السرطان بإدارة الرعاية الصحية الأساسية التابعة لوزارة الصحة، سمية المنصوري الهنشيري، عن تسجيل تونس لـ”ارتفاع في عدد الإصابات بسرطان الثدي حيث ارتفع عدد الحالات من 3884 حالة جديدة سنة 2022 إلى 4346 حالة جديدة في 2023″.
ويعتبر الاحتفاء بشهر “أكتوبر الوردي”، مناسبة للتحسيس بالكشف المبكر على سرطان الثدي، وموعد سنوي لتقوية التضامن والدعم الذي يقدمه المجتمع للمرضى والمتأثرين بسرطان الثدي.
ويشارك الناس بجميع أنحاء العالم في هذه الجهود، سعيًا للمساهمة في البحث عن علاجات أفضل، وتحسين حياة النساء المصابات بهذا المرض الخطير.
وعلى أهمية القوافل الصحية التي يتم تنظيمها سنويا من أجل الكشف على النساء في مختلف ولايات الجمهورية التونسية، توضح روضة زروق رئيسة “جمعية مرضى السرطان”، أن هناك “مشكل واضح في مرافقة من تم اكتشاف إصابتهن بمرض السرطان خلال الأيام التحسيسية، بحيث لا تتوفر لهن متابعة جدية لحالتهن في أغلب الأحيان”.
وذكرت زروق أن النساء “تواجه مشكل حقيقي في الحصول على مواعيد للكشف بجهاز الماموغرافي، وهو ما يجعل خضوعهن للعلاج يتأخر وفي غالبية الأحيان يكون له تأثير على وضعهن النفسي ما يؤثر على الصحي ومستوى تقدم المرض وانتشاره”. موضحةً أن “الأرقام المعلنة لا تعكس حقيقة انتشار المرض أو الرقم الحقيقي للإصابات”. وتعتبر رئيسة “جمعية مرضى السرطان”، أن “المشكل الحقيقي اليوم في تونس غياب خطة وطنية لمجابهة هذه الآفة وغياب سجل لمريضات السرطان يمكننا من معرفتهن وتحديد حاجياتهن”.
وتواجه المصابات بسرطان الثدي بالاضافة إلى تباعد المواعيد وتعطل الملفات لدى “صندوق التأمين عن المرض”، مشكل الأعطاب في التجهيزات الخاصة بالبروتوكول العلاجي وفقدان الأدوية، الأمر الذي يمثل أحد أسباب تدهور حالة المريضات الصحية.
وتنبه روضة زروق في نفس الوقت إلى “معضلة الأدوية المفقودة في المستشفيات ولدى صندوق التأمين على المرض”، وترى أن “الأدوية ليست مواكبة لتطورات التكنولوجيا الطبية مقارنة بما يحدث في العالم”. وبينت أنه “لا وجود لعدالة في العلاج، ومستوى ولوج النساء إلى الصحة يتباين حسب وضعهن الاجتماعي”.
وأشارت إلى أن ارتفاع أسعار العلاج ونقص الأدوية في المستشفيات العمومية كلها “عوامل تجعل حظّ ميسوري الحال أوفر للعلاج، حيث بإمكانهم إيجاد البديل حتى في ظلّ التكلفة المرتفعة، وهو ما لا يقدر عليه الجميع وخاصة المرضى الذين ينتمون إلى الطبقات المتوسطة والفقيرة ومحدودة الدخل”.
وبلغة الارقام يسجل العالم 2.2 مليون حالة إصابة جديدة بسرطان الثدي، كما أن كل امراة من ضمن 12 هي معرض للاصابة بمرض سرطان الثدي في تونس.
وتقول روضة زروق أن الكشف المبكر وانطلاق المريضات في العلاج “يمكن 8 من 10 نساء من الوصول إلى الشفاء من سرطان الثدي في حين أن تأخر المراة المصابة في الخضوع للبرتوكول العلاجي في مواعيده يجعل الرقم ينخفض إلى 2 من 10”.
وتؤكد رئيسة “جمعية مرضى السرطان” على أن بروتوكولات علاج مرض السرطان ومنه سرطان الثدي، “تطور في السنوات الأخيرة على كل المستويات ولم يعد استئصال الثدي هو العلاج الاكثر انتشارا، فبفضل الكشف المبكر أصبح العلاج متعدد الاشكال، بالاشعة والعلاج الهرموني والعلاج الموجه والعلاج بالمناعة فضلا على العلاج بالأدوية وبالأشعة.”.
وتوضح أن نسب الشفاء فيه عالية و”تصل إلى نسبة 90 بالمائة وتكون أقل تكلفة على الدولة والمجموعة الوطنية وعلى العائلة والفرد”.
وتشير زروق إلى أن سرطان الثدي هو “أكثر أنواع السرطانات شيوعًا بين النساء في تونس”، موضحةً أن “سرطان الثدي كلاً من الرجال والنساء إلا أنه أكثر شيوعًا بين النساء”.
“ساعد الدعم الكبير للتوعية بسرطان الثدي وتمويل الأبحاث على إحداث تقدم في تشخيص سرطان الثدي وعلاجه. وزادت في السنوات الأخيرة معدلات البقاء على قيد الحياة لمرضى سرطان الثدي، كما قل عدد الوفيات المرتبطة بهذا المرض بشكل منتظم، ويرجع ذلك في الأغلب إلى عدد من العوامل، مثل الكشف المبكر، واتباع طريقة علاج جديدة تراعي حالة كل مريض، والارتقاء بمستوى فهمنا لطبيعة هذا المرض”، تخلص زورق.