بعد أربعين عاما تعود دليلة محفوظ الناشطة السياسية الى الحديث عن تجربتها السجنية، عبر خوض مغامرة الكتابة ضمن كتاب جماعي لمجموعة من السجينات السياسيات التونسيات: “بنات السياسة” وهو أثر سعت من خلاله مجموعة من الناشطات لتأريخ تجاربهن كنساء تونسيات داخل السجن وتجربة “حركة برسبكتيف ” و”العامل التونسي” خلال فترة السبعينات.
ويجمع كتاب “بنات السياسة” سردياتٍ لكل من دليلة محفوظ جديدي وزينب بن سعيد الشارني وساسية الرويسي بن حسن وعائشة قلوز بن حسن وليلى تميم بليلي وأشرفت على إعداده الكاتبة والناشطة العراقية هيفاء زنكنة.
وتقول دليلة محفوظ: ” الكتابة كانت فرصة لاعادة اللقاء بين الرفيقات واستحضار ذكرياتنا بكل ما فيها من تفاصيل مؤلمة ومفرحة”.
وتكشف لـ”هن” أن “النظام سعى على الدوام الى طمص النساء من التاريخ، تاريخ الحركة الوطنية والنضال الطلابي والمدني”.
“حاول في مرة إسكات أصواتنا.. واليوم نعود عبر الكتابة التي كانت سبيلا وطريقا لإعادة الأحياء والاعتراف بما قمنا به من نضالات ومقاومة” تضيف محفوظ.
وتعد كتابات النساء السجينات في تونس شحيحة للغاية مقارنة بتلك التي تروي تجارب السياسيين والناشطين من الرجال داخل السجون.
تجارب “أدب السجون” التي تروي سرديات وتجارب من دهايز المعتقلات وأقبيات السجون، بدأت منذ ما بعد الاستقلال وظهور صراع اليسار مع نظام الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة، وما آلت إليه من تعذيب وسجن ونفي.
وتعتبر رواية جلبار النقاش “كريستال”، وكتاب فتحي بن الحاج يحيى “الحبس كذاب والحي يروح: ورقات من دفاتر اليسار في الزمن البورقيبي”؛ أبرز إنتاجات أدب السجون في تونس في فترة البورقيبية وفترة حكم بن علي.
اما بالنسبة لأدب السجون النسوي أو السرديات النسائية فيمكن القول أن ظهورها كان ما بعد ثورة 2011، حين عرفت كتابات السجون ازدهارا وتعددا، لتظهر حينها سرديات لسجينات من التيار الإسلامي، ومن اليسار التونسي على حد السواء، و”بنات السياسة ” و”دفاتر الملح ” و”ذاكرتي تحفظ الاشياء جيدا” بعض من هذه المنشورات التي قدمت خلالها مناضلات وناشطات تجربتهن مع الاعتقال والتعذيب و”الهرسلة” والسجن.
وفي العموم لم تكن سرديات النضال السياسي وفية لدور النساء في المقاومة، كما لم تحفظ تحملهن للتعذيب والتنكيل والوصم الاجتماعي الذي يواجهنه داخل وخارج أسوار السجن.
وتشير دليلة محفوظ إلى أن بدايتها مع تجربة الكتابة كانت عبر الرسائل التي كانت ترسلها من وراء قضبان السجن وكانت ترى أنها أداة للمقاومة وايصال صوتها.
وأمام ما مرت به في السجن من تضييق و”هرسلة” (تشهير) وإضراب عن الطعام، لم تفكر بعدَ خروجها في مواصلة الكتابة، حتى أنها لم تكن ممن تريد سرد ما وقع لها.
وبعد كل هذه السنوات تعترف محدثتنا أن “الكتابة كانت فرصة للقاء الرفيقات وللمراجعات، كما كانت أداة لإعادة بناء الذات”، مضيفة بنصف ابتسامة “الظلم وسوء المعاملة، هو رصيد من الوجع والألم في الغالب لا أحبذ إعادة الحديث عنه أو سرد تفاصيل تجربته، لكن أيضا وبعد كل هذه السنوات أقول أن الماضي وما عشته من تجارب مع نظام بورقيبة وبن علي هو إرث مشترك مع الآخر، وهو ليس ملكي وحدي ومن واجبي الكشف عنه وحفظه ضمن الذاكرة الوطنية”.
ورغم اشتراك ليلى التميمي الزنزانة والايقاف مع دليلة محفوظ لم تتعامل مع الوضع وما عاشته مثلها واختلفت تجربتها مع السجن عنها، إلا أنها سعت في سردها إلى أن إحاطة القصة بمسحة من الفكاهة والضحك.
“بالنسبة لي منذ خروجي من السجن تحدثت عن تجربتي مع ذلك المكان اللا إنساني الذي تتعمد فيه السلطة إذلال زائراته وزواره. ولم يكن لي أي موانع وأجريت حوارات ولقاءات صحفية، لم تعجب الجناة، كما رويت عدة تفاصيل عن تجربة الإيقاف وكانت فرصة لنقل ما عشناه بكل سخرية… كالاسابيع التي حرمنا فيها من الاستحمام ورؤية الضوء أو رؤية عائلاتنا” توضح ليلى بليلي.
وتقول “أنا إلى غاية الآن لا أعلم كيف رأى البوليس التونسي أني شخصية خطيرة وتم سجني 6 أشهر ضمن السجن التحفظي”.
وتوضح أنه من خلال تجربتها كباحثة ومؤرخة، فـ”من الجميل المشاركة في الكتابة الجماعية، فعبرها يمكن إعادة بناء فترة كاملة من الزمن من خلال تجارب وسرديات ووجهات نظر مختلفة”.
وتعتبر أنه من المهم “ترك هذه المادة كمرجع تاريخي وتجربة شخصية ذاتية”.
ورغم الاختلاف في نقل أو إعادة سرد ما حدث قبل أكثر من أربعين عاما داخل السجن، تتفق كل من دليلة محفوظ وليلى التميمي على أن تجربة السبعينات كانت قاسية، بالنسبة لهن وللعائلة بشكل مماثل، ففي ذلك الزمن؛ “كان السجن يمثل أداة تعذيب مضاعفة للسجينات النساء، يتم عبره وصم السجينة وحرمانها من الدراسة وتتحول ما بعده إلى شخص منبوذ دون علاقات أو صداقات، وتعيش مسلوبة الحقوق المدنية تقاوم في سجن جديد من أجل البقاء”.
وظل التاريخ التونسي المعاصر، يشهد مع كل سلطة وحاكم جديد؛ اعتقالات وايقافات تستهدف أصوات المعارضة والسياسيين والنقابيين والطلبة.
وتتالت هذه الحملات من بداية من السبعينات، مرورًا بـ”حركة برسبكتيف”، و”العامل التونسي”، وتكررت في أحداث 78 النقابية، ثم أحداث “الخبزة” في أوائل الثمانينات، لينتقل بعد ذلك الحكم إلى زين العابدين بن علي، الذي لم يغير من سلوك السلطة الحاكمة الكثير، بل انتظر حتى اشتد عوده ليخوض بدوره تجربته الخاصة في القمع، عبر حملة إيقافات في حق معارضيه في أواخر الثمانينات وبداية التسعينات، وواصل التضييق على من اختلف معه وعنه سياسيا وفكريا على امتداد حكمه الذي دام 23 عاما.
واليوم يعيد التاريخ استدارته الماكرة، مع نظام حكم الرئيس الحالي قيس سعيد، الذي يطبق بدوره السجن والاعتقال والتنكيل كأداةٍ لضرب معارضيه وكل من يختلف معه في الفكر أو التقييم.
تاريخ الاعتقالات في تونس يكرر نفسه من جديد، لتستقبل السجون التونسية مرة أخرى معارضين سياسيين و حقوقيين ونقابيين وصحفيين؛ بتهم مختلفة، تمتد من تهمة “التآمر ومحاولة قلب النظام” إلى بث “أخبار زائفة والإساءة إلى صورة الرئيس”.
ومع كل هذه السنوات الطويلة من السجون والمعتقلات العابرة للأنظمة التونسية، تظل مثلُ هذه السرديات النسائية ليست فقط شهادات على الماضي، ولكنها أيضًا أدوات للمقاومة والذاكرة، تساهم في الحفاظ على تاريخ النضال التونسي من أجل الحرية والعدالة، وتذكرنا بأن دور النساء في هذا النضال كان ولا يزال أساسيًا.