لحظة الولادة، التي يفترض أن تكون لحظة دافئة يملؤها الحب والأمل، حين تستقبل الأم مولودها الجديد، ولكنها تتحول في كثير من الأحيان إلى كابوس مؤلم يمتد تأثيره إلى ما بعد غرفة الولادة والعمليات.
“عنف التوليد”، ذلك الوحش الصامت الذي يتربص بالنساء في أضعف لحظاتهنَّ، لا يكتفي بسرقة فرحة الأمومة، بل يترك ندوبًا عميقة في أجسادهن ونفوسهن. هذه الندوب ليست مجرد ذكريات مؤلمة، بل هي أمراض وآلام جسدية ونفسية، وحياة كاملة تتغير إلى الأسوأ.
هبوط في أعضاء الحوض، سلس البول، تمزقات مؤلمة بسبب الضغط والعنف، والتهابات لا تنتهي، هذه ليست مجرد مصطلحات طبية، بل هي قصص حقيقية لنساء يعانين في صمت. قصص نساء وجدن أنفسهن في مواجهة تحديات صحية لم يتوقعنها، تحديات تسرق منهن القدرة على عيش حياة طبيعية، وتؤثر على علاقتهن الزوجية، وتزرع في نفوسهن القلق والخوف والاكتئاب.
عنف التوليد ليس مجرد لحظة عابرة، بل هو سلسلة من الأحداث والممارسات وسوء المعاملة في الرعاية التوليدية التي تترك أثارًا مدمرة لسنوات، وتجعل الأمومة تجربة مريرة بدلا من أن تكون مصدرًا للحنان والسعادة.
صرخات في غرف الولادة
في أروقة المستشفيات، داخل مصلحة التوليد حيث تتردد صرخات النساء الجزائريات، لم يكن الألم الجسدي والمخاض وحده الذي يملأ المكان، بل كانت هناك صرخات أخرى، صرخات الروح المنهكة التي تصارع من أجل حياة جديدة، تتعرض للعنف اللفظي والجسدي، كان جسدها ليس سوى قطعة من الخشب يتم التعامل معها بعنف واهانة وصراخ، والتقليل من مخاوفها بعبارات ” كل النساء يلدن، لماذا تصرخين؟”، في تلك اللحظات تتحول بعض مصالح التوليد إلى ساحة معركة دون مراعاة الجانب النفسي للمرأة.
وفي الجزائر مثل العديد من الدول الأخرى، لا تزال تتجلى صور العنف مع ضغطٍ وحشيٍّ على البطن، وبعض الممارسات العنيفة تنتج عنها أمراض مختلفة.
أنيسة 35 سنة، تروي لـ”هنَّ” أنها لم تكن تتخيل أن فرحة استقبال مولودها ستتحول إلى معاناة دائمة، فأثناء ولادتها، عاشت لحظات قاسية، كيث قامت إحدى القابلات “بالصعود على بطنها لدفع الجنين إلى الخارج”، لم يكن ذلك مجرد إجراء طبي، بل ممارسة عنيفة سببت لها هبوطا حادا في أعضاء الحوض وإعاقة.
تقول أنيسة بصوت حزين: “بعد شهرين من الولادة، شعرت بأن شيئا يتدلى من داخلي والآن وصلت إلى مرحلة متأخرة تمنعني من العيش ككل النساء، ويستدعي ذلك القيام بعدة عمليات جراحية”.
شعور غريب داخلي… وكأن شيئًا يخرج من مكانه
لم تكن أنيسة وحدها، فزينب هي الأخرى تعاني من تداعيات عنف التوليد؛ فبعد وضع مولودها؛ أصيبت بسلس البول، وأصبحت غير قادرة على التحكم في التبول، مما أجبرها على استخدام حفاضات خاصة طيلة اليوم.
تصف لمنصة “هنَّ” الأمر قائلة: “أصبحت لا أستطيع الخروج من المنزل بحرية، ولا حتى التنقل أو السفر، أشعر أنني مقيدة بسبب هذه المشكلة، كما أنني قطعت كل علاقاتي الاجتماعية وأصبت بصدمة نفسية، أما حياتي الشخصية مع زوجي فتحولت إلى جحيم”.
أما نبيلة، البالغة من العمر 25 عامًا، والتي ماتزال عروسًا في عامها الأول، تقول وهي تحبس دموعها: “بسبب العنف القاسي الذي تعرضت له في المستشفى أثناء ولادة مولودي الأول، أصبت بهبوط الرحم، أتذكر جيدا كيف تم الضغط على بطني بشدة مع ممارسات عديدة لا تزال راسخة في ذهني”. وتحكي نبيلة أنها اليوم تعيش “في اكتئاب حاد، وأتابع مع مختصة نفسانية، لكي أحاول أن أتجاوز هذه الصدمة التي جعلتني أفقد شغف الحياة ولم يعد زوجي مرتاحا معي”.
وتتابع بصوت مخنوق، “لا يمكنكِ أن تتخيلي شعور المرأة عندما ترى جزءا من جسدها الداخلي بالعين المجردة”.
وتشير دراسات علمية إلى أن النساء اللواتي تعرضن لعنف التوليد أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب الحاد، واضطراب ما بعد الصدمة، حيث تبقى ذكريات التجربة العنيفة محفورة في أذهانهنَّ، ما يجعلهن يعشن في خوف دائم من الحمل والولادة مجددا.
وتجعل هذه التداعيات الحاجة الملحة لفتح النقاش حول هذه الظاهرة، وإيجاد حلول جذرية لحماية النساء من العنف أثناء الولادة.
وتشير البيانات المستخلصة من دراسة ميدانية حول عنف التوليد في المستشفيات الجزائرية، إلى أن جميع النساء اللاتي شاركن في البحث “تعرضن لنوع من العنف أثناء الولادة”. الإحصاءات المقدمة في الدراسة الميدانية المعنونة بـ”العنف ضد النساء الحوامل من طرف القابلات في المستشفيات الجزائرية من منظور القابلات والنساء الحوامل”، توضح مدى انتشار هذه الظاهرة في البلاد:

هذه الأرقام تعكس واقعًا صادمًا تعيشه العديد من النساء داخل المستشفيات، حيث يجب أن يكنَّ في أمان، لكنهن يجدن أنفسهن ضحايا لممارسات قاسية تهدد صحتهن الجسدية والنفسية.
عواقب عنف التوليد: بين الألم والصمت
تأكد لنا القابلة المختصة نادية طايبي والتي تستقبل يوميا العديد من النساء الجزائريات في عيادتها المختصة لإعادة تأهيل عضلة العجان ونزول الأعضاء التناسلية وسلس البول، أن “هناك قصصا مؤلمة ترويها أجساد أنهكتها تجربة الولادة بأساليب خاطئة”، فمعظم النساء اللواتي يلجأن إلى نادية طايبي، هنّ ضحايا ممارسات قاسية تعرضن لها في غرف الولادة.
وتتحدث القابلة طايبي لـ”هنَّ” عن واقع مرير، حيث تروي كيف أن العديد من النساء “يصلن العيادة وهن يحملن جروحا جسدية ونفسية عميقة؛ تشمل هذه الجروح هبوطا في أعضاء الحوض، سلسا بوليا مؤلما، وتمزقات في العجان، وكلها نتائج مباشرة لعنف التوليد”.
وعن الولادة العنيفة تقول المختصة أنها من بين العوامل الأساسية التي تساهم في تفاقم مشكلات صحية خطيرة، وتوضح أن “واحدة من كل ثلاث نساء قد تعاني من هبوط الرحم بعد الولادة مباشرة، ولذلك من الضروري تحضير المرأة الحامل لهذه المرحلة عبر التدريب على تقنيات التنفس في الشهر الثامن، مما يسهل الولادة الطبيعية ويقلل الحاجة الى التدخلات العلاجية”.
وتضيف طايبي بلهجة حازمة: “يجب تجنب الضغط العنيف على بطن الحامل لإخراج الطفل، لأن هذا الإجراء يمكن أن يؤدي إلى مضاعفات خطيرة، لا تقتصر على أضعاف عضلة العجان وزيادة خطر هبوط الرحم، بل يمكن أن تصل إلى تمزق الطحال والكبد، مما يعرض حياة الأم للخطر، وهذا إجراء وحشي وغير مبرر، ويجب أن يتوقف فورا”.
وترى المختصة أن النساء “يجب أن تجد ملاذا آمنًا حيث يلتقين الرعاية الطبية المتخصصة، والدعم النفسي الذي يحتجنه، وإعادة تأهيل أجسادهنّ واستعادة ثقتهن بأنفسهن، والبدء في رحلة التعافي من آثار تجربة الولادة المؤلمة”.
وتصف طايبي أن “المخاض هو أحد أكثر اللحظات حساسية في حياة المرأة، حيث تكون بحاجة ماسة إلى الرعاية والاحترام والدعم”.
وتضيف “ومع ذلك فإن العديد من النساء يواجهن أثناء الولادة ممارسات مؤذية داخل المستشفيات، غالبا على يد من يفترض أن يكونوا مقدمي الرعاية الرئيسيين لهن مثل القابلات والأطباء”.
“إن الطريقة التي تعيش بها المرأة تجربتها أثناء الولادة يمكن أن تؤثر على صحتها الجسدية والنفسية، خاصة عندما تجد المرأة نفسها غير قادرة على التحكم في جسدها واتخاذ قراراتها الخاصة، نتيجة للأعراف الاجتماعية والممارسات الطبية التي تُنفذ دون مراعاة كراماتها وحقوقها”، توضح طايبي في حديثها لـ”هنَّ”.
في عام 2014 أكدت منظمة الصحة العالمية في تقريرها أن “منع الإساءة وعدم الاحترام وسوء المعاملة أثناء الولادة في المؤسسات الصحية والقضاء عليها أن هذه الممارسات تشكل انتهاكا صارخا لحقوق المرأة في الحصول على رعاية محترمة وآمنة”.
وأشارت المنظمة إلى أن “العنف التوليدي لا يؤثر فقط على المراة، بل يمثل تهديدا لحقها في الحياة والصحة والسلامة الجسدية”.
وتشير المختصة إلى ضرورة التركيز على تدريب الطواقم الطبية “القابلات” على تقنيات الولادة المحترمة، لأنها تقلل بشكل كبير من الصدمات النفسية والمضاعفات الصحية التي يمكن أن تواجهها النساء بعد الولادة، كما أن هناك حاجة ملحة لتطبيق برامج تدريبية مكثفة للقابلات والأطباء تركز على تعزيز مهارات التواصل مع النساء أثناء الولادة وكذا تفادي الإجراءات العنيفة أو غير الضرورية، وتقديم الدعم العاطفي والنفسي خلال المخاض.
وهذه التوصيات من شأنها أن تعزز جودة الرعاية الصحية، وتحد من العنف وتساهم في تحسين صحة الأمهات وتقليل المضاعفات بعد الولادة.
نهاية الصمت… ولادة بدون ألم
في عالم يجبر النساء على ابتلاع آلامهن في صمت، ويفترض أن يكون فيه المخاض لحظة حياة وأمل، لم يعد مقبولا أن تمر هذه الحالات كأنها قدر محتوم أو تجارب فردية لا تستحق الإلتفات، بل هو واقع تعانيه آلاف النساء. وتجمع النساء ضحايا هذه الممارسات، وحتى النساء المتخصصات، على أنه حان الوقت لكسر هذا الصمت، وأصبحت قضية صحية إنسانية تستدعي حلولا ملموسة، فالمرأة التي تخوض تجربة الولادة لا تحتاج إلى مزيد من الألم، بل إلى الرعاية والدعم والاحترام.
إنهاء العنف التوليدي ليس مجرد مطلب بل ضرورة طبية وأخلاقية، لا يمكن أن يستمر تجاهل صرخات النساء أو التعامل مع معاناتهنّ كأمر ثانوي بل يجب تغيير جذري لتعزيز ثقافة الموافقة المستنيرة وضمان رعاية الألم أثناء الولادة.