النساء العاملات في موريتانيا.. كفاحٌ تحت الضباب من أجل لقمة عيش

تتعدد قصص النساء العاملات وتتنوع تجاربهن، ومن بين تلك النماذج تبرز حكاية تربة، التي خاضت رحلة طويلة من أجل أن تكون إنسانة مستقلة. فبعد بلوغ سن العشرين، كما تروي تربة لمنصة “هنَّ”، “انخرطت في العمل لمساندة نفسي وعائلي، لأصل ما وصلت له اليوم حيث أحمل في جعبتي تجربة خمس سنوات في هذه المهنة” ، فترة تصفها بأنها “عبور صعب للحدود، وإنجاز لم يكن الحديث عنه متاحًا في السابق”.

مع بزوغ الفجر الأول، حين يلف الضباب الشوارع ويغرق الناس في دفء النوم، تبدأ تربة يومها مع مجموعة نساء يشبهنها في التعب والكد، حيث يخضن معًا رحلة كفاح يومية لا تترك مجالًا للتراجع. كل واحدة منهن تتمسك بالأمل في أن تظفر بلحظة فرح صغيرة بنهاية اليوم تعود بها إلى منزلها وفي قلبها حلم جديد أو ابتسامة تمحو عناء الساعات الطويلة.

تقول تربة “بدأت العمل في هذا المجال بالأجر اليومي في شركة (PPA) ضمن ما يعرف بـ’حگانة’، -وهو مصطلح يستخدم في تعبئة بيض السمك-، حيث كنت أعمل من ثلاث إلى أربع ساعات يوميًا، وأحيانًا أكثر، مقابل ثلاثة آلاف أوقية، حيث أضع البيض في أكياس بلاستيكية بمساعدة مجموعة من العمال، ثم يتولى العمال الأكثر خبرة استكمال العملية. وبعد ثلاثة أيام من ممارسة هذا العمل شرعت في التعلم، حتى تمكنت بعد عشرة أيام من إتقان المهمة”.

لاحقًا، توجهت تربة مع بعض الفتيات إلى شركة (Akdenise) في الأيام التي لا يتوفر فيها عمل داخل الشركة الأولى، حيث كنّ على حد تعبيرها يعملن في مهنة “طواية” (نساء يقمن بلف بيض السمك في البلاستيك)، ويجب أن يكن ذوات خبرة مقابل خمسة آلاف أوقية، (حوالي 125 دولار)، مضيفة أنها “وبعد انتهاء فترة البيض، انتقلت إلى مجال تعبئة الحبار، وهو عمل يختلف تمامًا. فبينما يسهل التعامل معه ولا يحتاج خبرة كبيرة، إلا أنه أكثر مشقة من حيث طول ساعات العمل ورائحته التي تسبب الدوار، ففي يومي الأول لم أقوى على التحمل لأكثر من سبع ساعات، حتى أنني فكرت في تركه نهائيًا، غير أن إصرار المشرف وإقناعه لوالدتي أعادني بعد ثلاثة أيام، ومع الوقت تأقلمت مع الرائحة وتعودت على ساعات العمل التي تصل أحيانًا إلى أربع عشرة ساعة”.

مع مرور الوقت، بدأت فترات انقطاع الحبار، حيث يغيب لثلاثة أيام من كل خمسة وعشرين يومًا، وهنا شرعت تربة، في تجربة جديدة مع “الروبيان، متنقلة بين عدة شركات مثل Santamar، Atlas، Mauritanie Pêche وAkdenise، إذ كان المصنف يعمل لحسابه الخاص، فيستأجر غرفة للعمل، ما فرض عليهنّ التنقل المستمر.

تقول تربة إن دخولها هذا المجال “لم يكن خيارًا بقدر ما كان قرارًا فرضته الظروف”. فقبل ذلك، كانت تعمل سكرتيرة في عيادة أسنان، لكن بعد سفر الطبيب وجدت نفسها دون عمل، لتدرك أهمية العمل ودوره في حياتها، لتعمل بعد ذلك في أكثر من 12 شركة، مؤكدة أنها لم تصادف أي حالة تحرش، إذ “كنتُ حذرةً في تعاملي مع أرباب العمل والزملاء”، ولم تقبل العمل مع أشخاص لا يوفرون لها الضمانات اللازمة التي تكفل لها الحماية القانونية في هكذا حالات.

وتضيف تربة “غير أن النظرة العامة في المجتمع، خاصة داخل مدينة نواذيبو، لا تزال قاسية، حيث ينظر البعض إلى أي امرأة تدخل الميناء باعتبارها تبحث عن الرجال أو  مشروع سفيهة، خصوصًا في حال كانت فترات عملها مسائية”.

“عمل المرأة يساعدها على إعالة الأسرة وتجاوز الأزمات المادية، كما يمنحها استقلاليتها ويدفعها نحو التفكير في بناء مشروع خاص بها”، تختم حديثها لـ”هنّ”.

وترى النسوية مليكة محمدالأمين أن بطالة النساء “تمثل قلقا متزايدا حول وضع النساء الاقتصادي في المجتمع”، مضيفة “نعرف جميعا أن توظيف النساء دائما يبقى أقل أهمية من توظيف الرجال، وهذا يستنتج من النسب الهائلة لبطالة النساء ونسب العاملات مقارنة بالعمال الذكور؛ سواء في المؤسسات الخاصة أو العامة، هذا بالاضافة للقيود المفروضة على ولوج النساء لمراكز صنع القرار ورؤوس الأموال مقارنة بالرجال”.

“واقع مؤلم ومزري سواء من ناحية بيئة العمل غير الآمنة والأجور المتدنية” تضيف مليكة، مؤكدة على أنه ينضاف إلى ذلك “الانقطاعات المستمرة واعتماد النساء على العمل في مواسم معينة، ما يسبب نوعا من عدم الاستقرار المادي”.

وتعاني المرأة الموريتانية من تحديات اقتصادية هيكلية في سوق العمل، حيث تبلغ نسبة بطالة النساء 15.24 بالمائة في عام 2023، مع انخفاض طفيف في النسبة مقارنة بعام 2022 الذي بلغت فيه النسبة 15.38 بالمائة.

وتشير تقديرات البنك الدولي لعام 2024 إلى استقرار نسبة البطالة عند 15.03 بالمائة، مما يعكس تحسنًا بطيئًا في ظل غياب سياسات فعالة لمكافحة البطالة ودعم تشغيل النساء.

وتُظهر الإحصائيات إضافة إلى ذلك، أن مشاركة المرأة في سوق العمل في موريتانيا لا تتجاوز 26.41 بالمائة من القوى العاملة في عام 2023، مقارنةً بنسبة عالمية تبلغ 51.07 بالمائة، وهذه الفجوة الكبيرة تعكس التحديات التي تواجهها النساء في الوصول إلى فرص العمل المنظمة، حيث تشير البيانات إلى أن هذه الفجوة ناتجة عن تداخل عوامل متعددة، بينها ضعف التأهيل وغياب الحماية القانونية، والأدوار الاجتماعية التقليدية، والتمييز المنهجي في بيئة العمل.

اقرأ أيضا

  • اللاإنجابية.. نساء يتمردن على غريزة الأمومة في مواجهة مع المجتمع

    "لا أتصور نفسي صحبة رضيع طوال الوقت، أتكلف بكل تفاصيل يومه، جهد كبير جدا لا أجدني مستعدة له، بل لست على استعداد لأحمل ثقلا لتسعة أشهر، وأشتغل، وأسافر… لدي طموح أكبر من إنجاب أطفال أهديهم حياتي التي بنيتها بعناء، وجهد"، هكذا بدأت أسماء تفسر قرارها في ما بات يعرف بـ"اللاإنجابية"، وهو قرارٌ طوعي بعدم إنجاء…

    سناء كريم|

    03.12.2024

  • جحيم شركات “الكابلاج”.. بديل للبطالة ينهك صحة المغربيات 

     "صحتي مشات"، تقول صفاء بصوت منهك، يعتريه حزن وحنق كبيران، قبل أن تظهر الشابة ذات الـ29 سنة أوراق الفحوصات والشواهد الطبية التي تؤكد إصابتها بمشاكل في الظهر والعمود الفقري، بعد أربع سنوات من العمل في إحدى الشركات المتخصصة في صناعة الأسلاك الكهربائية، والموجهة لصناعة السيارات بمدينة القنيطرة. الشابة الحاصلة على إجازة في علم الاجتماع، تحكي…

    هاجر اعزة|

    18.07.2024

  • شاهدة على مأساة مليلية| قصة معاناة حواء من السودان إلى المغرب

    بين حوالي ألفي شخص، من المهاجرين واللاجئين الذين كانوا في ذلك اليوم الدامي، كانت هناك سيدتان، هما السودانية حواء 47 سنة، والتشادية مريم 20 سنة. وتمثل قصة حواء، فصلاً من فصول مآسي النساء المهاجرات، والهاربات من أتون الحرب والصراعات التي تعصف بالدول الإفريقية، فهذه المرأة رأت الموت مرتين، مرة في دارفور، ومرة عند سياج مليلية.…

    شادي بخاري|

    23.06.2024

  • أميرة محمد: وضع حرية التعبير في تونس أخطر مما كانت عليه في عهدي بن علي وبورقيبة

    منظمات دولية وجمعيات محلية مستقلة في تونس، تنبه إلى تصاعد  مستوى قمع الإعلام وحرية التعبير، وتعبّر عن تخوفها من المحاكمات القضائية لصحفيين وإعلاميين ومعلقين، بسبب الرأي الذي بدأ منسوب حريته يتناقص في البلاد.  وتأتي هذه المتابعات قبل الانتخابات الرئاسية الأولى، في فترة ما بعد الـ25 جويلية 2021، وفي ظل توجه ممنهج لتقويض القضاء، سجن عشرات…

    ريم بلقاسم|

    11.06.2024

  • حراك “جيل زد”.. بين سلمية المطالب وتصاعد المواجهات

    الاحتجاجات الشبابية التي دعت إليها مجموعة “جيل زد” في المغرب، للمطالبة بإصلاحات في قطاعي التعليم والصحة، والتي كانت السلطات قد منعتها، تحوّلت يوم الثلاثاء إلى مواجهات مع قوات الأمن والمتظاهرين في عدد من مدن البلاد، خاصة مدينة وجدة. والد ضحية وجدة: من سيدفع كرسي أمين؟  وفي مدينة وجدة، شرق المغرب، اندلعت المواجهات بين المتظاهرين وقوات…

    سعيد المرابط|

    01.10.2025

  • مغربيات هويلفا.. “عبودية الفراولة”

     مازالت آثار الحريق الذي أتى على أكواخهن شاهدةً على هول ما حدث، فالبلاستيك الذي كان غطاءًا لهذه "البراريك" المهترئة التي كانت لهن مأوى في هذا المخيم؛ شكل أرضيةً سوداء تغطي التربة، كأنها شاهدٌ صامتٌ على هول المأساة التي تشكل فصلًا يتكرر في حياتهنّ كل عام. في صبيحة اليوم الـ28 من دجنبر الماضي، نشب  حريق جديد…

    سعيد المرابط|

    21.04.2025

  • مأساة حواء تراوري.. جريمة تهز الضمير وتكشف هشاشة حماية النساء في موريتانيا

    أثارت جريمة مروعة راحت ضحيتها الشابة حواء تراوري، وهي في بداية حملها، صدمة وغضبًا واسعًا في البلاد، بعد العثور على جثتها صباح الخميس الماضي في منزل مهجور يقطنه عدد من الرجال العزاب في حي "نتك" بمنطقة الميناء في العاصمة نواكشوط.  حواء، البالغة من العمر 18 عامًا، كانت قد غادرت منزلها يوم الأربعاء لإجراء فحص طبي…

    Hounna | هنّ|

    02.06.2025

  • “الزواج ليس غاية”.. نساء يخترن الاستقلال ويرفضن “القوالب الجاهزة”

    "لست ضد الحب أو الزواج، لكنني أرفض رجلًا يقيد طموحي، يعتمد عليّ كمصدر دخل، أو يفرض ذكورته في مواقف تبتعد عن الرجولة التي نشأنا على احترامها… لا أرى الزواج غاية في ذاته، بل علاقة تقوم على الندية والاحترام والدعم"، بهذه الكلمات تعبّر أمينة، إطار بإحدى الوزارات، عن موقفها الواضح من الزواج، متحدثة إلى منصة “هنَّ”.…

    سناء كريم|

    20.05.2025

  • الفيديوهات

  • “لم نتوصل بالدعم”..نساء الحوز يكشفن الوجه الآخر لإهمال ضحايا الزلزال

    يبدو أن بلدة مولاي إبراهيم بإقليم الحوز، جنوب مدينة مراكش، لن تتعافى قريبا من تبعات الزلزال الذي بعثر سبل العيش هناك، خاصة أن أغلب سكان البلدة كانوا يعيشون على نشاط السياحة الداخلية التي يجلبها ضريح مولاي إبراهيم، فالتجارة والإيواء وخدمات أخرى توفرها الساكنة، خاصة نسائها، توقفت اليوم بشكل كلي، ولا أمل يلوح في الأفق لعودة…

  • محاكمة عسكرية للمعارضة التونسية شيماء عيسى

    لم تغلق المحكمة العسكرية بعد، ملف محاكمة شيماء عيسى، المعارضة التونسية والقيادية في جبهة الخلاص الوطني، فقد تم تأجيل جلسة، محاكمتها إلى 10 أكتوبر، القادم.

  • ختان البنات موروث ملطخ بالدم

    تنتشر ظاهرة ختان الإناث بصورة كبيرة في عموم مناطق موريتانيا، إذ تحتل البلاد المرتبة الثامنة عالمياً. ويعتبر ختان البنات موروثاً وتقليداً في المجتمع الموريتاني ويهدف إلى المحافظة على عذرية البنات و"تهذيب شهوتهن" الجنسية، وفقا للمدافعين عنه بينما تشجب فئات اجتماعة أخرى في البلاد هذه الظاهرة.

  • فاطنة بنت الحسين.. أسطورة العيطة وأيقونة الفن الشعبي في المغرب

    ولدت فاطنة بنت الحسين في منتصف الثلاثينات بمنطقة سيدي بنور، التابعة لدكالة، من عائلة قروية محافظة رفضت ولوجها مجال الغناء، نظرا للسمعة السيئة التي كانت ملتصقة بـ"الشيخة" وقتها. انتقلت فاطنة إلى مدينة اليوسفية، وهناك انضمت إلى فرقة "الشيخ المحجوب"، وزوجته "الشيخة العبدية"، لتحصد شهرة واسعة وصل مداها إلى مدينة آسفي، معقل "العيطة الحصباوية"، وبعدها مدينة…

  • ناسجات الحياة.. نساء بالحوز ينسجن الزرابي بين أنقاض الزلزال

    بالقرب من مركز جماعة أسني بإقليم الحوز، اجتمعت أربع نسوة بدوار "أسلدا" ينسجن الزرابي، بحثا عن مورد رزق، في كوخ من القصب ومغطى بالبلاستيك وورق التعليب، بعد أن دمر الزلزال المكان الذي كن يشتغلن فيه، والذي كان مقرًا لـ"جمعية الدوار"، قبل أن يحوله الزلزال إلى أطلال. في البداية، تحديدًا قبل ثلاثة سنوات من جائحة "كورونا"؛…