اغتال المؤشر الاجتماعي فرحة ملايين النساء اللائي يعشن في وضعية هشة، ممن اعتبرن أن إطلاق الحكومة لعملية التسجيل في برنامج الدعم الاجتماعي المباشر؛ تجسيد لإرادة حقيقية في إنصاف هذه الفئة التي تعيش على عتبة الفقر.
فاطمة، امرأة تجاوزت الخمسين من العمر، لم تتزوج، تعمل خادمة في إحدى المنازل بدون وثائق، تكتري بيتا مشتركا مع صديقة لها في حي التقدم بمدينة الرباط، استبشرت خيرًا بهذه المبادرة، إلا أن المؤشر الاجتماعي خيب ظنها.
بابتسامة هادئة تؤكد فاطمة في حديثها لمنصة “هنَّ”، أنها كانت تحتاج إلى هذا المبلغ رغم هزالته، “على الأقل سأضمن أن أتوصل بمبلغ شهري قار مهما كان قدره، يقيني من التسول حين أمرض، وأصبح طريحة الفراش بدون عمل، فالعمل رهين بأن أكون بصحة جيدة، وبالتالي غير مسموح لي بالمرض، أو التمارض حين تُتعبني هذه الحياة، ويُتعبني الوضع الذي أعيشه”.
“ها الدار.. واش الدار غادي توكلك”، تستنكر رقية بهذا التعبير إقصاءها، وأختها من الاستفادة من الدعم الاجتماعي، الاثنتان عاطلتان عن العمل، تعيشان معًا في بيت صغير، هو إرث عن والدهما المتوفى.
في البادية التي تعيشان فيها، لا فرص للعمل؛ أحيانا تبيعان بعض البيض، أو تقطفان بعض الأعشاب لبيعها في السوق الأسبوعي، لذلك لم تستفيدا من الدعم الاجتماعي المباشر.
في حديثها مع “هنَّ” لم تستسغ رقية فكرة إقصائها وأختها من الدعم الاجتماعي، قائلة، “نعم نتوفر على منزل يقينا حرارة الصيف، وبرودة الشتاء، لكن جدران هذا البيت لا تقدم لنا الأكل، واللباس… وبالتالي فنحن أيضا ضمن الفئات الهشة في هذا المجتمع، ومن حقنا الاستفادة من الدعم الاجتماعي الذي أعلنت عنه الحكومة في التلفزة، وأكدت أنه موجه للطبقة الهشة، إلا أننا لم نتوفق في الحصول عليه بسبب شروط غير مفهومة”.
بدورها استنكرت رابحة، سيدة طاعنة في السن، من ذوي الاحتياجات الخاصة إقصاءها من هذا الدعم بسبب “دار الورثة”، مؤكدة في حديث لها مع “هنَّ”، “أنا سيدة طاعنة في السن، مريضة ولا دخل مادي لي منذ توفي زوجي… أبنائي لا يستطيعون تلبية حاجياتي بسبب قلة ذات اليد، فكان الأولى أن أستفيد من ذلك المبلغ، عسى أن يغطي مصاريف دوائي الشهري، لكن للأسف تم رفض طلبي”.
آلاف النساء ممن لا حول لهن ولا قوة، تشتكين من عدم استفادتهن من الدعم الاجتماعي المباشر، بسبب توفرهن على “الويفي” في البيت، أو التلفاز، أو بسبب توفرهن على هاتفين، أو لأن عداد الماء والكهرباء في أسمائهن.
فيما تشتكي أخريات من توقيف هذا الدعم عنهن، بعد أن كانت تعوِلن عليه للتخفيف من الارتفاع المتواصل في الأسعار، وغلاء المعيشة.
“أرقام فضفاضة لا نشعر بها على أرض”
يعيش حوالي ثلاثة ملايين مغربي في الفقر، إلا أن أغلب البرامج الاجتماعية، حسب نتائج دراسات وتقارير، “فشلت في تقليص الفوارق الاجتماعية”.
وفي تصريح لمنصة “هنَّ”، تؤكد فاطمة التامني، النائبة البرلمانية عن فيدرالية اليسار الديمقراطي، على أن “البرامج الاجتماعية التي تتحدث عنها الحكومة ليس لها أثر على مستوى عيش المواطنات، والمواطنين المغاربة”.
وعن الدعم الاجتماعي المرصود للفئات الهشة، تبرز النائبة البرلمانية أن “هناك مشكل حقيقي على مستوى المؤشر، أو المعايير المعتمدة للاستفادة من هذا الدعم”، مشددة على أنها “غير موضوعية، وأصبحت عند المغاربة محط تنكيت وهزل.. فيكفي أن تتوفر على هاتف نقال، أو دراجة نارية، لتكون خارج تصنيف المؤشر”.
وتعتبر التامني، أن المعايير التي تم وضعها؛ “هدفها هو تقليص الفئة المستفيدة، مما تسبب في إقصاء الكثيرين؛ النساء بشكل عام، الأرامل، الفئات المعوزة، الشباب العاطل.. والعديد من الشرائح تم إقصاؤها”.
“بالرغم من هزالة هذا المبلغ الذي لا يتناسب مع حاجيات وانتظارات المواطنات والمواطنين في وضعية هشة، بل لا يتناسب مع متطلبات الحياة، وغير مناسب أيضا لغلاء المعيشة حاليا”، توضح النائبة البرلمانية.
وفي هذا الصدد، تؤكد التامني على ضرورة “مراجعة المعايير التي تم اعتمادها، والوقوف على الوضع الحقيقي، ودعم كل من يستحق”.
كما شددت على ضرورة “مراجعة مبلغ هذا الدعم”، مشيرة إلى أن “الحكومة تعلن عن رصدها لأرقام فضفاضة، لكن لا نشعر بها على أرض”.
فرحة لم تكتمل
تفاجأ آلاف المواطنين ممن كان لهم الحظ في قبول طلبهم واستفادتهم من الدعم لثلاثة أشهر متواصلة؛ بتوقيفه عنهم بدون مبرر مباشر، سوى رسالة نصية تدعوهم لزيارة المنصة المخصصة له، حيث اكتشفوا بأن مؤشرهم ارتفع، وتجاوز العتبة التي تمنحهم حق الاستفادة، الأمر الذي خلف موجة من الاستياء في صفوفهم، وأعاد جدل المعايير إلى الواجهة.
مصطفى بايتاس، الناطق الرسمي باسم الحكومة والوزير المنتدب المكلف بالعلاقات مع البرلمان، وفي توضيح له لما تم تداوله حول توقف استفادة عدد من الأسر من الدعم المباشر، قال إن هذا “الدعم يتم وفق شروط ومراسيم، وحين تتوفر هذه الشروط يتم صرف المبالغ لمستحقيها”.
وأضاف بايتاس، في تصريح صحفي عقب اجتماع المجلس الحكومي أنه “حينما يقع تغير في الوضعية الأسرية، أو يختل شرط ما حينئذ يجب مراجعة ذلك”.
وأشار المسؤول الحكومي، إلى أن “عدد الأسرة المستفيدة إلى حد الآن من الدعم الاجتماعي المباشر بلغ 4 ملايين أسرة”، مردفا أن هذه العملية “مؤطرة بقوانين ومراسيم، ويجب احترام المقتضيات القانونية والإجراءات المنصوص عليها في هذه المراسيم”.
من جهته، أفاد فوزي لقجع، الوزير المنتدب المكلف بالميزانية، في لقاء للأغلبية الأسبوع الماضي، على أن السجل الاجتماعي الموحد، “رغم أنه ليس مثاليًا، يضم حالياً 3.7 مليون أسرة تستفيد من الدعم الاجتماعي المباشر”.
وأشار لقجع إلى أن هذا السجل “يعتمد على تقييم القدرة الشرائية للأسر، وأن الحكومة مستعدة لتطويره وتحسينه باستمرار لضمان وصول الدعم لمستحقيه”.
وأكد على أن الحكومة “تعترف بوجود حالات تتطلب معالجة دقيقة، وتدعو المواطنين إلى مراجعة مؤشراتهم والإدلاء بالوثائق اللازمة إذا كانت لديهم ملاحظات أو استفسارات”.
دعم يكرس الفوارق الاجتماعية
يرى القدوري نورالدين، المحلل الاقتصادي بـ”معهد الجيوسياسية التطبيقية بباريس”، أن “الدعم الاجتماعي المباشر هو من اللبنات الأولى لمفهوم الدولة الاجتماعية، ويهدف إلى تحسين ظروف العيش لدى الأسر، لذلك نجد أن المنحة المقدمة للأسر التي تستجيب للعتبة على أساس التنقيط المحصل عليه في السجل الاجتماعي الموحد RSU، والمحددة في 9,7 بالمائة، تختلف حسب سن الأولاد، أو تمدرسهم، أو في وضعية هشاشة”.
ويضيف عضو مجلس إدارة “الجمعية المغربية للعلوم الاقتصادية”، في تصريح لمنصة “هنَّ”، أن “الدولة اعتمدت على مفهوم مادي في تحديد معايير عتبة الاستفادة، دون الأخذ بأسباب أخرى للهشاشة كظروف المأوى، أو المنطقة الجغرافية”.
“خصوصا أن مفهوم الهشاشة مرتبط بالمخاطر والأزمات، مشددا على أن نجاح مشروع الحماية الاجتماعية، رهين بالحد من تفشي مظاهر الاقتصاد الغير المهيكل، وانخراط المواطن في المنظومة الاجتماعية الجديدة”، يوضح الخبير الاقتصادي.
ويضيف القدوري، “صحيح أنه لا يمكن تقييم مشروع في مهده، لكن تبقى المنحة المحددة ما بين خمسمائة درهم وألف درهم ضعيفة مقارنة مع المسؤولية المنوطة لهذا الورش الملكي، إذ تمثل ما بين السدس أو الثلث على التوالي من الحد الأدنى للأجور، وهو أمر قد ينعكس على تكريس الفوارق الاجتماعية، خصوصا مع موجة التضخم التي عرفها الاقتصاد الوطني بعد أزمة كوفيد، وهو أمر يستدعي البحث عن سبل جديدة للتمويل، والرفع من فعالية الإنتاج الوطني”.