بعد ستة أشهر من الانتظار، يصل أخيراً موعد فحص رقية الطبي. غير أن هذا الفحص الروتيني استلزم من ابن رقية، كالعادة، التغيب عن عمله من أجل مرافقة والدته. ليس لدعمها فقط، ولكن أيضاً للعب دور المترجم بين الطبيب ووالدته التي لا تتحدث العربية، والتي تعول كلّياً على ابنها سعيد لفهم ما سيقال لها، أو للتعبير عن وضعها الصحي.
وضع رقية ليس استثناءً، بل يعكس معاناة العديد من النساء الأمازيغيات بالمغرب، اللواتي لا يتحدثن سوى لغتهن الأم، ويجدن أنفسهن مجبرات على البحث عن مُرافق يساعدهن في قضاء شؤونهن الإدارية والطبية، في ظل غياب اللغة الأمازيغية عن العديد من المرافق العمومية، رغم الاعتراف بها كلغة رسمية في البلاد.
غياب لغتهن يؤدي لضياع حقوقهن
أمينة زيوال، رئيسة جمعية “صوت المرأة الأمازيغية” تقول إن النساء الأمازيغيات تواجهن صعوبات متعددة بسبب غياب لغتهن في المؤسسات الرسمية. ففي الإدارات والمحاكم والمستشفيات، تعيق اللغة فهمهن للإجراءات القانونية، ما يؤدي إلى ضياع حقوقهن في قضايا الزواج والطلاق والحضانة، بل ويمتد الأمر إلى المخاطر الصحية بسبب سوء التشخيص الطبي الناتج عن انعدام التواصل الفعّال مع الطاقم الطبي”.
ورغم الاعتراف الدستوري بالأمازيغية كلغة رسمية منذ عام 2011، تضيف الحقوقية نفسها في تصريح ل”هن”، أن تفعيلها في المؤسسات لا يزال محدودًا، مما يكرّس تمييزا ضد النساء اللواتي لا يتحدثن العربية أو الفرنسية. معتبرة أن حرمانهن من المعلومات والخدمات بلغتهن الأم لا يعكس فقط خللًا في التطبيق القانوني، بل يعمّق أيضا الفجوة الاجتماعية ويعيق تطور المجتمع نحو العدالة والمساواة.
وصف للألم بالأمازيغية وتشخيص له بالعربية
معاناة رقية مع عدم فهم أطبائها للغتها، بدأت منذ أن كانت تقطن في قريتها النائية في جنوب المغرب. وبعد انتقالها إلى مدينة الرباط قبل عشر سنوات، لم يتغير الوضع كثيراً. فلا زالت تنتظر المرأة الستينية أحد أبنائها لمرافقتها لزيارة الطبيب لتفقد حالتها الصحية، وهي المصابة بالعديد من الأمراض المزمنة.
وفي بوحها ل”هن” تسترسل رقية حديثها بلسان أهل سوس بصوت هادئ خجول: “كل زيارة للطبيب تُشعرني بالضعف والعجز. أحياناً أتردد في ذكر بعض الأعراض أمام ابني الذي يترجم لي، خاصة تلك المتعلقة بأمور نسائية خاصة. وحتى عندما أشرح حالتي، أشك دائماً في أن ابني ينقل كل ما أقوله للطبيب بالتفصيل، أو أن الطبيب يشرح لي كل شيء عن حالتي”.
تروي لنا ابنة رقية معاناة والدتها بعد وفاة أحد أبنائها وصعوبة الوصول إلى تشخيص لحالتها: “بعد وفاة أخي قبل سنتين، تدهورت حالة والدتي بشكل ملحوظ، ليس فقط جسديا، بل نفسيا أيضا. لم نكن نعرف ما سبب الألم الذي كانت تشعر به، كل ما نعرفه أنها تأنُّ كل ليلة ولم تعد تلك المرأة النشيطة التي كانت.
تتابع الابنة حديثها شارحة: “صعب جداً أن أنقل أنا أو أخي ما تحس به أمي للطبيب. فمهما حاولنا لن يكون ذلك كالتواصل المباشر مع الطبيب الذي يفهم لغتك. وتضيف بحسرة: وإن كان أطبائنا لا يسعون لفهمنا نحن الذين نتحدث لغتهم. ونتيجة لهذا، فقد شخصت والدتي بشكل خاطئ في الكثير من المرات، وأكوام الأدوية التي تناولتها المكدسة في الخزانة شاهدة على ذلك.
وتختم رقية حديثها قائلة: “نحن كبرنا، فمن الطبيعي أن أحتاج لزيارة الأطباء. إن كان الإنسان شاباً فلا يهمه إن كان الطبيب يتحدث العربية أو الأمازيغية، أما نحن الذين لم نتعلم فما علينا إلا أن ندعوا أن يبعدنا الله عن هذه الأماكن وأن لا نزورها أصلا”.
الأمية تعمق أزمة الأمازيغيات
وبحسب الأرقام التي كشفتها المندوبية السامية للتخطيط، بناءً على إحصاء 2024، فإن 25 في المئة من المغاربة يتحدثون الأمازيغية، ما يعكس حضورها كلغة أم لشريحة واسعة من السكان، رغم تشكيك فاعلين أمازيغيين في هذا الرقم، معتبرين أنه أقل من الواقع.
وفي المقابل، بلغت نسبة الأمية 25 في المئة أيضا، بحسب المعطيات نفسها، ما يزيد من حدة هذا الإشكال، حيث تجد العديد من النساء الأمازيغيات غير الناطقات بالعربية، صعوبة في التواصل مع المؤسسات الإدارية والصحية، ما يعيق استفادتهن من الخدمات الأساسية.
ووعيا بهذه الإشكالات، أشارت رئيسة جمعية صوت المرأة الأمازيغية إلى أن الجمعية أطلقت برنامجا لمحو الأمية القانونية للمرأة الأمازيغية، بهدف تمكين النساء من معرفة حقوقهن في مدونة الأسرة والقوانين الانتخابية، إضافة إلى تأهيلهن للتفاعل مع المؤسسات الرسمية. وأضافت الناشطة الحقوقية أن إحدى أولويات الحركة الأمازيغية الأساسية هي الضغط من أجل تعيين موظفين يتحدثون الأمازيغية. معتبرة أن توفير مترجمين في المؤسسات العمومية، هو أمر “غير مقبول فنحن لسنا أجانب ليوفروا لنا مترجمين، فالأصح هو تكوين موظفين يتحدثون اللغة الأمازيغية”.
“دون مرافق لن أتمكن من قضاء أي غرض إداري”
تلخّص لنا فاضمة، وهي امرأة في الستينات من عمرها، تجربتها باعتبارها ناطقة باللغة الأمازيغية في المؤسسات العمومية قائلة: “لا أفهم ما يقولون ولا يفهمونني. دون مرافقة أخي أو أحد أبنائي لن أتمكن من قضاء أي غرض إداري”.
تقول فاضمة، التي تقطن في إحدى الجماعات القروية التابعة القريبة من مدينة أكادير، بحسرة: “هذا حال من يتمم تعليمه. عند زيارة الطبيب، أحتاج دائما مرافقة رجل كي يوصلني ولكي يشرح للطبيب ما أشعر به ويشرح لي ما الذي قاله ومواعيد الدواء الذي كتبه الطبيب في الكشف”.
وعن تجربتها في الإدارات العمومية تقول المرأة: “نحن يا ابنتي لا نذهب للإدارات إلا إذا احتجنا لتجديد أو استخراج البطاقة الوطنية. عدا ذلك فنحن جالسات في بيوتنا. وتضيف بأسف: “بودّنا أن نكون قادرين على التحدث بالعربية والفرنسية ولغات أخرى، لكن الأمر خارج إرادتنا”.
تواصل فاضمة لتشاركنا قصة قريبتها التي كان عدم تمكّنها من اللغة العربية عائقا لها في الحصول على حقها بعد تضرر منزلها من جراء زلزال الحوز. فحسب فاضمة، فإن هذه المرأة المسنّة قد تخلت عن حقها في الحصول على تعويض بعد أن تعبت من الانتقال من شخص لآخر لمساعدتها دون أن تجد أي حل.
وتنهي فاضمة حديثها بنبرة رضا، لم تخل من حسرة مكتومة: “نحن يا ابنتي لا حل لنا سوى أن نبحث دائما عن من يقرأ لنا وثائقنا الإدارية والطبية ويرشدنا للطريق أو يصطحبنا فنحن كأكياس كبيرة تحتاج من ينقلها، لكن الحمد لله على كل حال”.
“في حاجة إلى وزارة مستقلة للأمازيغية “
وعن الحلول والمقترحات التي يمكن أن تضمن للنساء الأمازيغيات حقوقهن في الاستفادة من الخدمات العامة، تؤكد زيوال أن الديمقراطية لا يمكن أن تكون حقيقية دون أن تكون الأمازيغية جزءاً منها، وأن العدالة المجالية بين الجنسين لا يمكن أن تتحقق إلا إذا تم الاعتراف بالأمازيغية في كافة المجالات.
وتتابع زيوال: من المقترحات التي أؤكد عليها دائماً هي ضرورة أن تكون هناك إرادة سياسية من قبل الدولة، مع تخصيص الميزانية اللازمة لتفعيل اللغة الأمازيغية في كافة المؤسسات، بدءاً من المدارس والكليات، وصولاً إلى الإدارات والمحاكم. يجب أن يتم توفير محامين وقضاة وإداريين يتقنون اللغة الأمازيغية كما يتقنون اللغة العربية.
إلى جانب ذلك ترى الحقوقية نفسها أن من الضروري أن يكون هناك برنامج شامل لتعليم الأمازيغية في جميع المعاهد والمدارس. مؤكدة على ضرورة تخصيص وزارة مستقلة للأمازيغية، تكون مسؤولة عن تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، من خلال تمويل مشاريع تهدف إلى النهوض باللغة والثقافة الأمازيغية في مختلف المجالات.
وتجدر الإشارة إلى وزيرة الانتقال الرقمي وإصلاح الإدارة، أمل الفلاح السغروشني، قد كشفت خلال جلسة بالبرلمان، يناير الماضي، بأن وزارتها ستتمكن نهاية سنة 2025 من توفير 2373 عونا ناطقا بالأمازيغية بروادفها الثلاث (تشلحيت، تاريفيت، تمازيغت) على مستوى مراكز الاستقبال ومراكز الاتصال.
وأشارت الوزيرة في جواب لها ضمن جلسة الأسئلة الشفهية بمجلس النواب، إلى أن هناك 464 عونا ناطقا بالأمازيغية حاليا على المستوى المركزي واللاممركز، مع برمجة تشغيل 1840 عونا ناطقا بالتعبيرات الثلاث خلال هذه السنة، ووضع 69 عونا ناطقا باللغة الأمازيغية رهن إشارة 10 مراكز اتصال.