“لا أتصور نفسي صحبة رضيع طوال الوقت، أتكلف بكل تفاصيل يومه، جهد كبير جدا لا أجدني مستعدة له، بل لست على استعداد لأحمل ثقلا لتسعة أشهر، وأشتغل، وأسافر… لدي طموح أكبر من إنجاب أطفال أهديهم حياتي التي بنيتها بعناء، وجهد”، هكذا بدأت أسماء تفسر قرارها في ما بات يعرف بـ”اللاإنجابية”، وهو قرارٌ طوعي بعدم إنجاء أبناء، أصبح منتشرًا بين النساء والرجال، في شتى ربوع العالم.
“أرفض الإنجاب”
أسماء، شابة في عمر الزهور، لا يتجاوز عمرها الـ26 سنة، بدأت حياتها الزوجية منذ سنة فقط، تشرح لمنصة “هنَّ” مبرراتها في الرغبة في عدم الإنجاب، قائلةً: “أرفض الإنجاب، كل سنوات عمري التي مضت كنت أجتهد في دراستي من أجل تحقيق طموحاتي، الحصول على عمل قار يوفر لي أجرا محترما لأعيش حياتي كما يحلو لي، أسافر، أقتني ملابس باهظة الثمن، وإكسسوارات… ولكي أعيش بالشكل الذي أريد، قررت تأجيل فكرة الإنجاب”.
تبدو أسماء مقتنعة بقرارها، لكن رفض العائلة للفكرة يزعجها بعض الشيء، “لا مشكل عندي بالمطلق أن أعيش بدون أولاد، وهي الفكرة التي أؤمن بها أنا وزوجي الذي يريد أيضا تحقيق أحلامه، لكننا اصطدمنا بموقف عائلتينا معا؛ ‘خصكم وليّد يونسكم’”

وبضحكة ساخرة، تضيف أسماء، “أنا لا أستطيع تحمل نفسي، وبالكاد أتعايش بشكل سلمي مع زوجي، فكلانا لديه أحلام يريد تحقيقها، كيف لي أن أهتم بطفل، بكل تفاصيل يومه؟… لن أستطيع ذلك، وسأناضل من أجل أن أحيا كما أريد، لعلي أنتصر”.
تمرد على غريزة الأمومة
قصة أسماء، لا تختلف عن قصص فتيات، ونساءٍ كثيرات، التقت بهن منصة “هنَّ”، نساءٌ تمردن على الواقع الذي ترسخت فيه قناعة لدى الكثيرات بأن قيمة المرأة تحددها قدرتها على الإنجاب، فيما كان الطموح سببا في قرار عدم الإنجاب لدى أخريات.
سارة، امرأة مطلقة، تبلغ من العمر 46 سنة، تعاني من النظرة التمييزية للمرأة بدون أطفال، في حديثها لمنصة “هنَّ”، تقول أنت “للأسف مازالت نظرة المجتمع إلى المرأة كما هي منذ قرون مضت، المفروض أن تكون على ذمة زوج، ولديها أبناء… وما تبقى من نجاحاتها، واستقلالها المادي لا قيمة له بالمطلق، وكم تتعبني كلمة ‘مسكينة’ رغم كل نجاحاتي الشخصية”.
وبألم تحكي لـ”هنَّ” سارة، عن تجربتها، موضحةً أنها قررتْ عدم الإنجاب من زوجها عندما “انتبهت في بدايات الزواج أننا لا نتفق تماما، وأن مصير العلاقة سيكون حتما الطلاق، تحملت مسؤولية سوء اختياري لرفيق دربي حينها، وأنقذت طفلا، أو طفلة بريئة من الحياة بين حضنين متباعدين، لم يستطيعا حماية العلاقة التي جمعتهما رغم علاقة الحب التي جمعتهما بداية الارتباط، فكيف سيحميان ثمرة تلك العلاقة التي فشلت بسبب تراكمات الحياة اليومية بينهما”.
لم تندم سارة،على قرارها بعدم الإنجاب، ولا تشعر بأي حرمان من وجود أطفال في حياتها، توضح ذلك وهي مبتسمة، “لم أكرر تجربة الزواج، ولا أفكر في الأمر، ولم أندم مطلقا على القرار الذي اتخذته بعدم الإنجاب، هكذا طويت صفحة من حياتي، تناسيت خذلانا، وتعبًا نفسيا عشته لأربع سنوات، ولم أكن لأستطيع ذلك لو عدت لأسرتي حاملة معي ألم حياة لم تستمر كما رسمتها، وكيانٌ صغيرٌ سيتعب حتما بيني وبين طليقي، بل سيتعب أكثر وسط أسرتي التي ستتعامل معه بذنب والده مهما أحبته”.
بين القناعات والأسرة
سهام، 32 سنة، مستقرة مع زوجها بألمانيا، بدورها تعاني من بعض التلميحات من والدتها، ووالدة زوجها بضرورة إنجاب أطفال، أو طفل واحد حتى “يتسليان به”.

تقول في حديث مع منصة “هنَّ”، أنها تزوجت منذ ثلاثة سنوات، ولدى زوجها ولدان من طليقته، ولذلك “اخترت عدم الإنجاب بشكل إرادي، الأمر الذي لم يعارضه زوجي، لكن مشكلتي مع والدتي، ووالدة زوجي؛ ففي كل زيارة لنا للمغرب من الضروري مناقشة هذا الموضوع، المشكلة أنهما لا تقتنعان بأنني وزوجي سعداء، نشتغل، ونعيش حياتنا بشكل عادي، ولا نشعر بأي إحساس سيء في عدم وجود أطفال… هم مقتنعون بأن الأبناء سر سعادة الأزواج، وهذا غير صحيح بالمطلق حسب تجربي الخاصة”.
الخوف من تحمل المسؤولية
ترى الخبيرة في العلاقات الأسرية، نورا إسماعيلي، أن الخوف “يشكل أكبر عائق لبعض النساء، وهو خوفٌ من التورط في إنجاب طفل، أو أطفال، وعدم القدرة على الاهتمام بهم بالشكل المثالي، والخوف من تحمل مسؤوليتهم في المطلق”.
“الضغوط اليومية الناتجة عن كثرة المهام عند المرأة العاملة بالخصوص؛ تقف حاجزا أمام قرار استقبال مولود جديد لاسيما في السنوات الأولى للزواج، فعلى مدار اليوم تجد المرأة نفسها بين دوامة العمل ومتطلبات البيت، قد يضاف إليه وجود طفل أو أكثر، وذلك مجهود كبير يشعرها بالضغط والتوتر، خصوصا عندما ينضاف إلى ذلك غياب دعم الزوج أو العائلة، سواء الدعم النفسي أو المادي، ناهيك عن التراجع في تقديم الجدة لبعض المساعدات في تربية الأحفاد”، تضيف الخبيرة في تصريح لـ”هنَّ”.
وتوضح إسماعيلي، أن بعض الحالات “تفكر في إنجاب طفل واحد فقط، فلم يعد يهم العدد، بل جودة التربية، والاهتمام، خصوصا مع ارتفاع التكاليف اليومية، بداية من الحمل وما يصاحبه من تطبيب ثم التمدرس”.
وفي السياق ذاته، توقفت نورا إسماعيلي عند وجود بعض التخوف لدى بعض النساء من أن “يعيق الإنجاب تحقيق طموحهن، خصوصا اللواتي تعبن للوصول إلى عمل مرموق، حيث يصير طموحهن أكبر من تربية الأولاد”.
وتؤكد المتحدثة ذاتها، على أن “هناك نساء ناجحات في عملهن، وفي بيوتهن، ومع أبنائهن”، مشيرةً إلى أن “المسألة التي تعيق المرأة لتقرر عدم الإنجاب ذهنية فقط، وفيها تخوفٌ من مجهول من الممكن تجاوزه”.
اصطدام غريزة الأمومة بالإكراهات
من جانبه، يرى عادل الغزالي، أستاذ علم النفس بجامعة الحسن الثاني المحمدية، أنه “في غياب دراسات تعالج هذه الإشكاليات في سياقها المغربي، يتم الاستئناس بمجموعة من الفرضيات، أو المسلمات، على ضوء تحليل الوقائع، انطلاقا من الحالات المتواجدة في المحيط العائلي والمهني، ومحيط الأصدقاء”.
ويعتبر الغزالي أن الإنجاب “غريزة طبيعية لأي أنثى، يعني حاجة بيولوجية، لكن بالانتقال إلى المجتمع، قد تصطدم غريزة الأمومة، بالإكراهات الاجتماعية بما في ذلك الجانب الأخلاقي، والاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي، والديني”.
“في الأجيال السابقة كانت غريزة الأمومة تختزل وجود المرأة، إنجاب الأطفال كان يمنحها إشباعا روحيا، ونفسيا، بل وسيلة للاستقرار، وكانوا يمثلون استثمارا أسريا، وبالتالي كان الإنجاب ضرورة والزوجة التي تعاني من العقم كانت في الغالب عرضة للطلاق”، يضيف الغزالي.
ويشير المتحدث، إلى الوضع التي تعيشه المرأة عموما اليوم، كـ”الدراسة، الخروج إلى العمل، تأخر سن الزواج، حيث تغيرت الأولويات لدى الرجل، والمرأة معا، مما أسفر عن وجود فئات تشعر بعبء الإنجاب، أحيانا تبلغ نساء مراتب عليا، وفي بداياتها يتم الحمل، وفي ذهنهن قد ترين أن هذا الحمل، وما يليه سيؤثر على مستقبلهن، بالإضافة إلى تأثير الضغط الأسري الذي لم تعد له المكانة المقدسة التي تضغط بقوة، بل صار للفتاة هامشٌ لحرية الرفض والقبول، حتى لو قبلت بإطار الزواج قد تفكر في تأخير الإنجاب لسنوات”.
وأثار عادل الغزالي تأثير ما يسمى بـ”المؤثرين والمؤثرات على مواقع التواصل الاجتماعي”، حيث يرى أن هؤلاء “صاروا يبيعون الوهم حين يصورون حياة الرفاهية، ويسوقون أنها غير ممكنة بوجود أطفال، وما يتطلبه من عناية واهتمام بهم”.
وعرج إلى الحديث عن التكامل بين الأسر، مبرزا أن ما يعيشه العالم من “اندحار الأسرة، وتفككها، هو مؤشر خطير، صار يدق ناقوس الخطر، فمثلا في زلزال الحوز الأسرة هي من لعبت دور الاحتضان، وبالتالي فإن غياب هذه العلاقات والروابط المتينة يهدد المجتمع، ناهيك عن ظهور ثقافة يمكن ونصفها بـ‘الشاذة’ في غياب دور السياسي، والدولة، والمراقبة، مما يتطلب التشجيع على الإنجاب، والمواكبة”.