كانت الساعة تقترب من منتصف الليل عندما وصلت آخر رسالة صوتية من أمل، مهاجرة إثيوبية تحتجزها الميليشيات المسلحة داخل سجن يُعرف بـ”مركز احتجاز الزاوية”، المعروف عند الضحايا بـ”سجن أسامة” أو “المصري”.
بصوت مرتجف ومقطوع بأنفاس متسارعة، قالت أمل في فيديو توصلت به منصة “هنّ”: “أنا الآن في سجن الزاوية في ليبيا. نحن نواجه مشاكل مختلفة هنا. أنا محتجزة مع أطفالي القُصَّر، وقد تم اعتقالي في البحر. نناشد كل من يهمه الأمر أن يساعدنا”.
لم تكن أمل وحدها. تشير التقديرات إلى أن نحو 150 شخصًا، من بينهم عدد كبير من النساء والأطفال، محتجزون داخل هذا المركز، الذي تديره ميليشيات تُعرف بعلاقتها بشبكات الاتجار بالبشر. تم اعتراض هؤلاء المهاجرين في البحر يوم 2 مايو 2025 قبالة سواحل زوارة، أثناء محاولتهم عبور المتوسط نحو أوروبا.
لكن البحر، الذي يُفترض أن يكون منفذ نجاة، كان هذه المرة بوابة إلى كابوس آخر، وتؤكد أمل في شهادتها : “ما حدث لنا في البحر تجاوز مستوى القسوة البشرية. فتاة احترقت حتى الموت هناك، ولم نرَ حتى جثتها، وفتاة أخرى توفيت عندما جئنا معها إلى هنا أمس”.
في السجن، لا توجد قوانين. فقط صمت ثقيل، وجدران لا تسمع سوى بكاء النساء وصراخ الأطفال. وتؤكد أمل: “لقد عشنا في ليبيا لسنوات عديدة، وقد فقدنا الأمل في المفوضية السامية لشؤون اللاجئين. نهرب إلى البحر حيث الجوع والعطش والاغتصاب وانتهاك حقوق الأطفال. انشروا أصواتنا، فنحن نعيش الجحيم في ليبيا”.
وفي مقابلة مع منصة “هنّ”، كشف محمد داود، عضو منظمة “لاجئون في ليبيا”، عن تفاصيل خطيرة قائلاً: “هؤلاء المهاجرات تم اعتراضهن في البحر بتاريخ 2 مايو 2025 نواحي مدينة زوارة أثناء محاولتهم مغادرة ليبيا، إلى الضفة الأخرى، ليتم اقتيادهم إلى مركز الاحتجاز هذا”.
وأكد داود أن منظمة “لاجئون في ليبيا” “تلقت نداءات استغاثة من داخل المركز قبل أن تنقطع الاتصالات فجأة”، مما يثير مخاوف كبيرة حول تعرضهم لمزيد من الانتهاكات أو التصفية.
الشهادات التي جمعتها منصة “هنّ” من نساء سبق لهن أن احتُجزن في هذا المركز ترسم صورة قاتمة، وتكشف عن اعتداءات جنسية ممنهجة، تعذيب جسدي ونفسي، حرمان من الطعام والماء، وانتهاك صارخ لأبسط الحقوق الإنسانية.
ولم يكن المال بعيدًا عن هذا الجحيم.
وفي هذا الشأن يؤكد داود على أن: “الميليشيات المسلحة تطالب بفدية تتراوح بين 4000 و6000 دينار ليبي بالنسبة للمحتجزين السودانيين، ومن 6000 إلى 11000 دينار ليبي للإفراج عن المحتجزين من جنسيات أخرى، في مشهد يوثق الاتجار المنظم بالبشر داخل الأراضي الليبية”.
ويضيف أن سجون “أسامة المصري” ليست مجرد مراكز احتجاز، “بل مشاريع ربح قذرة، تُستغل فيها أجساد النساء والأطفال لتمويل عصابات لا تخضع لأي قانون”.
لكن المأساة لا تتوقف عند الحدود الليبية، فحسب ذات المنظمة، فإن اسم أسامة نجيم المعروف بالمصري ليس مجهولًا في أوروبا. فقد تم توقيفه في مدينة تورينو الإيطالية بناءً على مذكرة من المحكمة الجنائية الدولية، ثم أعيد إلى ليبيا في طائرة حكومية إيطالية، بعد أن تم إطلاق سراحه فيما وصفته المنظمة بـ”الدعم الأوروبي الصريح لجرائم الاتجار بالبشر”.
وتشير تقارير المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) إلى أن النساء والفتيات المهاجرات، خاصة من غرب إفريقيا، غالبًا ما يسافرن تحت سيطرة المهربين أو المتاجرين بالبشر، مما يعرضهن لخطر الاستغلال والعنف الجنسي.
ووفقًا لتقرير المنظمة الدولية للهجرة (IOM) لعام 2024، يشكل الرجال البالغون حوالي 87 بالمائة من إجمالي المهاجرين البالغين في ليبيا، بينما تشكل النساء البالغات حوالي 13 بالمائة، مما يعكس التحديات الخاصة التي تواجهها النساء في رحلات الهجرة.
وفيما يزداد الوضع جحيمًا في ليبيا، مازالت أمل، وأطفالها، وعشرات مثلها، مجهولات المصير داخل سجون رسمية وغير رسمية لا تعترف به أي سلطة قضائية. في ليبيا، حيث تتقاطع الجرائم ضد الإنسانية مع مصالح عسكرة الحدود، وحيت تتقاطع سياسة تصدير الحدود الأوروبية مع مصالح شبكات الاتجار في البشر تتحوّل حياة آلاف المهاجرين إلى لعبة قاسية بيد الميليشيات.