“الحوريات”: بين نجاح كمال داود وصوت سعادة عربان المسلوب

تحمل باقة من الورد، هادئة وعيناها غارقتان بالدموع. لم تستطع النطق بكلمة واحدة عندما طلبتُ منها تصريحًا حول والدتها، وزيرة الصحة الراحلة زهية شنتوف منتوري، خلال تكريم أقيم في مايو الماضي على شرفها بعد وفاتها عام 2022. شعرتُ بالاستغراب، لكنه تبدد تمامًا عندما سمعت صوتها. بصعوبة بالغة تمكنتُ من فك جملها لفهم ما تقول. فضّلت أن تصرح قريبتها بدلاً منها، بينما وقفت بجانبها بصمت. إنها سعادة عربان، المرأة التي أثارت جدلًا واسعًا في الجزائر مؤخرًا. لم أكن أتوقع أن ألتقي بها مجددًا، لكن في ظروف مختلفة تمامًا.

سعادة عربان، امرأة جزائرية وجدت نفسها في قلب جدل عالمي عنوانه “حوريات” وبطله الكاتب الجزائري الفرنسي كمال داود. وُلدت سعادة في 16 ديسمبر 1993 بمدينة الجلفة، متزوجة وأم لطفل، تُعد إحدى الناجيات من مآسي الإرهاب الذي مس الجزائر خلال سنوات التسعينيات، فيما يُعرف بالعشرية السوداء التي أودت بحياة نحو 200 ألف شخص. في سن السادسة، شهدت سعادة مذبحة مروعة عندما هاجمت مجموعة إرهابية مسلحة منزلها، وقتلت جميع أفراد عائلتها أمام عينيها، إذ تعرضت لمحاولة ذبح، لكنها نجت منها بمعجزة، حين أدرك الطاقم الطبي أنها ما زالت على قيد الحياة أثناء وجودها في مصلحة حفظ الجثث.

كشفت سعادة خلال مقابلة تلفزيونية عن قصتها التي أخفتها لسنوات، متهمة الكاتب كمال داود بسرقة قصتها وكتابتها دون إذنها في روايته الأخيرة “حوريات”، التي حازت على جائزة الغونكور، أرقى الجوائز الأدبية الفرنسية. التي اعتبرتها أكاديمية غونكور بأنها “كتاب تتنافس فيه القصائد الغنائية مع التراجيديا، ويعبّر عن العذابات المرتبطة بفترة مظلمة من تاريخ الجزائر، وخصوصًا ما عانته النساء”.

سعادة عربان أكدت أن زوجة كمال داود، التي كانت طبيبتها النفسية، أفشت السر الطبي من خلال منح زوجها ملفها الطبي.

من هو كمال داود صاحب “الحوريات”؟

أطل كمال داود من نافذة مطعم “دروان” الباريسي الذي أُعلن منه اسم الفائز بجائزتي غونكور ورونودو، معبرًا عن فرحته الشديدة بفوزه بالجائزة: “أنا سعيد جدًا. إنها عبارة مستهلكة، لكن لا توجد كلمات أخرى”. لكن سعادته لم تدم طويلًا.

وُلد داود في 17 يونيو 1970 بولاية مستغانم، ترعرع في بيت جده المحافظ في قرية أصبح إمامًا في ثانويتها، واختلط بالإسلاميين قبل أن يبتعد تمامًا عن الدين. وكان الوحيد من بين إخوته الذي درس. شغل منصب رئيس التحرير من 1994 إلى 2015 في صحيفة “لو كوتيديان وهران”.

لطالما أثار داود الكثير من الجدل، حيث حُكم عليه بالحبس النافذ بتهمة الضرب والجرح عمدًا بالسلاح الأبيض ضد زوجته السابقة. كما اشتهر بكتاباته الناقدة وآرائه الجدلية. في عام 2020، تحصل داود على الجنسية الفرنسية بموجب قرار رئاسي أصدره الرئيس إيمانويل ماكرون. وفي مقابلة مع مجلة “لوبوان” الفرنسية، التي يكتب فيها عمودًا، صرح في أغسطس الماضي: “أنا أتعرض للهجوم في الجزائر لأنني لا أتبنى خطاب مناهضة الاستعمار، ولست معاديًا لفرنسا”. وأضاف قائلًا: “أنا مصاب بمتلازمة أبولينير، أنا فرنسي أكثر من الفرنسيين”.

نشر داود رواية “ميرسو، تحقيق مضاد” في عام 2014، والتي حققت نجاحًا ملفتًا. غادر البلاد إلى باريس سنة 2023. في نوفمبر 2024، فاز بجائزة غونكور، ليصبح بذلك أول جزائري ينال هذه الجائزة الرفيعة.

وتتناول رواية “الحوريات”، الصادرة عن دار “غاليمار”، أحداث العشرية السوداء في الجزائر بين 1992 و2002. الرواية بطلتها الشابة “أوب” أو “فجر” التي فقدت قدرتها على الكلام حيث ذبحها أحد الإرهابيين في 31 ديسمبر 1999. لم تُطرح الرواية للبيع في الجزائر، حيث حظرت السلطات في البلاد الدار الناشرة للكتاب من المشاركة في معرض الكتاب الدولي الذي نظم شهر نوفمبر الجاري.

خيانة وإفشاء للسر المهني

تروي سعادة عربان بتفاصيل مؤثرة قصتها قائلة: “كانت عايشة كمال داود طبيبتي النفسية منذ عام 2015. في إحدى المرات، دعَتني إلى منزلها لشرب القهوة، وهناك طلب مني كمال داود الإذن بتحويل قصتي إلى عمل أدبي. رفضت ذلك رفضًا قاطعًا، تمامًا كما كانت أمي الراحلة ترفض دائمًا أي عروض من الصحافيين لسرد قصتي”.

وأضافت: “بعد وفاة أمي في عام 2022، عاودت زوجة كمال داود المحاولة مرة أخرى، لكنني رفضت مجددًا. لاحقًا، حاولت إغرائي بإغراءات مادية، قائلة إن القصة قد تتحول إلى فيلم وسأحصل على مبلغ كبير يمكنني به شراء شقة في إسبانيا. كانت تدّعي أنها هنا لحمايتي، لكنها في الواقع كانت أول من خذلني وباعتني لزوجها”.

بعد صدور الكتاب، قدمت لي زوجة كمال داود نسخة مرفقة بإهداء شخصي، كتب فيه: “بلدنا غالبًا ما تنقذه نساء شجاعات، وأنتِ واحدة منهن، مع إعجابي”. في البداية، لم ألاحظ ما قد يكون وراء هذا الإهداء، خاصةً أن زوجته أكدت لي أن الرواية لا تتحدث عني. لكن مع مرور الوقت، بدأت أتلقى اتصالات من أصدقائي الذين استغربوا كيف لي أن أوافق على نشر قصتي، رغم تمسكي الدائم بسرية مأساتي. أكدوا لي أن الرواية تروي قصتي بكل تفاصيلها، مع تعديلات طفيفة في الأسماء والسياق الزمني.

تؤكد سعادة أن رواية كمال داود “الحوريات” مستوحاة من تفاصيل حياتها وتقول: “هناك عناصر كثيرة في الرواية تعكس ما عشته، مثل الجرح في رقبتي جراء الذبح، أنبوب التنفس، حادثة الإجهاض، الوشوم ومعانيها، العملية التي كنت سأجريها في فرنسا، صالون التجميل الذي أملكه، المعاش الذي أحصل عليه كضحية للإرهاب، والصراع مع أمي التي تبنتني والتي أُشير إليها كصاحبة سلطة. حتى حب بطلة الرواية للخيل يطابق شغفي برياضة الفروسية”. وترى سعادة أن داود أعاد نبش جراح مأساة حاولت تجاوزها على مدى 25 عامًا. “هذا الماضي يخصني، وأنا وحدي من يقرر كيف ومتى يُكتب”.

دعوى قضائية وشكوك حول جائزة غونكور

رفعت سعادة عربان دعوى قضائية ضد داود وزوجته بتهمة “الكتابة دون إذن، انتهاك الخصوصية، وإفشاء السر الطبي”، حيث أكدت محاميتها فاطمة الزهراء بن براهم تقديم الدعوى بتاريخ 18 نوفمبر بمحكمة وهران.

وأشارت المحامية إلى أن بعض أعضاء لجنة تحكيم جائزة غونكور، الذين امتنعوا عن التصويت لصالح داود، يعيدون الآن التفكير في قرار الجائزة، مؤكدة أن شروط الجائزة تمنع استغلال القصص الحقيقية بطريقة تنتهك خصوصية الآخرين أو تمس بكرامتهم. وأضافت أن الرواية تخالف هذه الشروط، مطالبة بسحب الجائزة من داود.

كما كشفت بن براهم عن دعم عدد من المحامين الفرنسيين للقضية، معتبرين أنها إنسانية بامتياز. واتهمت داود بـ”سرقة صوت موكلتها وآلامها”، وأعلنت عن اختفاء الملف الطبي الخاص بسعادة، الذي كان بحوزة طبيبتها.

من جهة أخرى، يرى العديد من المؤيدين لكمال داود أن الحملة التي تُشن ضده تأتي نتيجة نجاحه وإبداعه الأدبي، وأن الاتهامات الموجهة له تفتقر إلى الدليل، مشيرين إلى أن الرواية لم تذكر اسم سعادة صراحة. كما استنكرت دار النشر “غاليمار” ما وصفته بـ”حملات تشهيرية” تستهدف كمال داود منذ نشر روايته. وأكدت الدار أن بطلة الرواية شخصية خيالية تمامًا، وأن الهجمات يقودها بعض وسائل الإعلام المقربة من النظام الجزائري.

في الختام، ينقسم الرأي بين من يعتبرون نجاح كمال داود إنجازًا يستحق التقدير، ومن يرون في روايته تعديًا على خصوصية مأساة إنسانية. يجد داود نفسه في مواجهة معركة على عدة جبهات، ومع استمرار صمته تجاه الاتهامات، تبقى القضية مفتوحة على عدة احتمالات، منها إعادة النظر في جائزة غونكور أو إصدار حكم قضائي قد يعيد طرح النقاش حول حدود الأدب ومسؤولياته

اقرأ أيضا

  • مديرة مطعم سياحي.. “دوسة” امراة تونسية تكسر نمطية المهن وجنس العمل 

    سندس امراة تونسية، تشتغل مديرة بأحد المطاعم السياحية وسط العاصمة تونس، يبدأ دوام عملها على الساعة الخامسة مساءً، ويتواصل إلى غاية الساعات الأولى من الصباح.  وطيلة الثماني أو التسع ساعات التي تشتغلها، تبقى "دوسة"؛ كما يَستحبُ أصدقاؤها أن ينادونها؛ محافظةً على ابتسامتها المعهودة وعلى الحفاوة في استقبال كل زائر جديد. تتنقل كل فترة كالفراشة في…

    ريم بلقاسم|

  • بين الإقصاء والسرية والوصم.. الثمن الذي تدفعه النساء مقابل حظر الإجهاض في المغرب

    أطلقت "منظمة العفو الدولية"، دراسة رائدة تحذر من أن تجريم الإجهاض في المغرب، حتى في حالات الحمل الناتج عن الاغتصاب، له "آثار مدمرة" على حقوق النساء والفتيات. وقالت "منظمة العفو الدولية"، اليوم الثلاثاء، أن الدولة المغربية تنتهك حقوق النساء؛ بسبب تجريم الإجهاض في البلاد، الأمر الذي يدفع الكثيرات منهن، حتى اللاتي تعرضن للاغتصاب أو سوء…

    Hounna | هنّ|

  • بين المواعيد البعيدة و الأدوية غير المتوفرة.. معاناة المصابات بسرطان الثدي في تونس 

    وسط معهد صالح عزيز، تعج قاعات الانتظار بالمرضى منذ الساعات الأولى للصباح، وتشهد ممراته حركة عالية بتقدم الوقت واقتراب مواعيد انطلاق العيادات؛ هنا أطباء وممرضين، مرضى وزوار، ومرافقين وأطفال وباعة متجولون، وهناك في نهاية الممر، يستقر قسم الجراحة أين تقدم كشوفات سرطان الثدي، وهو  الجزء الأكثر اكتظاظا داخل المشفى. في قسم الجراحة، تضطرّ النسوة للجلوس…

    ريم بلقاسم|

  • “زوج مع وقف المسؤولية”.. هروب الزوج جحيم تعيشه النساء في المغرب 

    "لم أبحث عن زوجي الذي فر هاربا من مسؤولية طفلين صغيرين، ووالدته المريضة بالسكري، لا وقت لي لذلك، فقد انشغلت بالبحث عن قوت يومي لهذه الأفواه المفتوحة، وعن ثمن كراء البيت الذي يأوينا مخافة طردنا منه، ولادي لي مقسحين، أحيانا لا أستطيع أن أوفر لهم أي طعام طيلة اليوم، يبكون منحرقة الجوع، فأشعر بالعجز أمام…

    سناء كريم|

  • الفيديوهات

  • “لم نتوصل بالدعم”..نساء الحوز يكشفن الوجه الآخر لإهمال ضحايا الزلزال

    يبدو أن بلدة مولاي إبراهيم بإقليم الحوز، جنوب مدينة مراكش، لن تتعافى قريبا من تبعات الزلزال الذي بعثر سبل العيش هناك، خاصة أن أغلب سكان البلدة كانوا يعيشون على نشاط السياحة الداخلية التي يجلبها ضريح مولاي إبراهيم، فالتجارة والإيواء وخدمات أخرى توفرها الساكنة، خاصة نسائها، توقفت اليوم بشكل كلي، ولا أمل يلوح في الأفق لعودة…

  • محاكمة عسكرية للمعارضة التونسية شيماء عيسى

    لم تغلق المحكمة العسكرية بعد، ملف محاكمة شيماء عيسى، المعارضة التونسية والقيادية في جبهة الخلاص الوطني، فقد تم تأجيل جلسة، محاكمتها إلى 10 أكتوبر، القادم.

  • ختان البنات موروث ملطخ بالدم

    تنتشر ظاهرة ختان الإناث بصورة كبيرة في عموم مناطق موريتانيا، إذ تحتل البلاد المرتبة الثامنة عالمياً. ويعتبر ختان البنات موروثاً وتقليداً في المجتمع الموريتاني ويهدف إلى المحافظة على عذرية البنات و"تهذيب شهوتهن" الجنسية، وفقا للمدافعين عنه بينما تشجب فئات اجتماعة أخرى في البلاد هذه الظاهرة.

  • فاطنة بنت الحسين.. أسطورة العيطة وأيقونة الفن الشعبي في المغرب

    ولدت فاطنة بنت الحسين في منتصف الثلاثينات بمنطقة سيدي بنور، التابعة لدكالة، من عائلة قروية محافظة رفضت ولوجها مجال الغناء، نظرا للسمعة السيئة التي كانت ملتصقة بـ"الشيخة" وقتها. انتقلت فاطنة إلى مدينة اليوسفية، وهناك انضمت إلى فرقة "الشيخ المحجوب"، وزوجته "الشيخة العبدية"، لتحصد شهرة واسعة وصل مداها إلى مدينة آسفي، معقل "العيطة الحصباوية"، وبعدها مدينة…

  • ناسجات الحياة.. نساء بالحوز ينسجن الزرابي بين أنقاض الزلزال

    بالقرب من مركز جماعة أسني بإقليم الحوز، اجتمعت أربع نسوة بدوار "أسلدا" ينسجن الزرابي، بحثا عن مورد رزق، في كوخ من القصب ومغطى بالبلاستيك وورق التعليب، بعد أن دمر الزلزال المكان الذي كن يشتغلن فيه، والذي كان مقرًا لـ"جمعية الدوار"، قبل أن يحوله الزلزال إلى أطلال. في البداية، تحديدًا قبل ثلاثة سنوات من جائحة "كورونا"؛…

  • منع مسيرات تضامنية مع فلسطين “دعم لجرائم الإبادة”

    🟠 منعت مسيرات احتجاجية ضد العدوان الإسرائيلي، تخليدا ليوم الأرض الفلسطيني، نهاية الأسبوع الماضي، من طرف قوات الأمن في عدد من المدن المغربية، ما خلف تنديدا واستنكارا واسعينِ من طرف المشاركين في تلك الاحتجاجات.

  • العاملات الفلاحيات هنّ الأكثر تضررا من التغيرات المناخية

    🔶تعاني الدول المغاربية منذ سنوات من الجفاف على مدار السنة ، ما فاقم نسبة الفقر عموما بهذه الدول وخاصة لدى النساء، وفقدت آلاف العاملات في مجال الفلاحة مورد رزقهن.