“متى ستعود إلى إسبانيا؟، وقلي أنك لا تنظر إلى أي امرأة أخرى”، هذا ما كتبته كارميلا من غرناطة إلى حبيبها في المغرب عام 1944، عندما كانت إسبانيا تعيش تحت دكتاتورية نظام الجنرال فرانسيسكو فرانكو.
ولكن تلك الكلمات، وغيرها الكثير من الحب والبوح، الذي حملته رسائل عدة؛ لم تصل أبدًا إلى وجهتها. فقد صادرها نظام فرانكو لأنها لا تشي بالحب الممنوع فقط، بل تسجل تاريخًا من المحظورات خلال الحقبة الاستعمارية الإسبانية للمغرب.
وبدلًا من أن تصل، انتهى بها الأمر مختبئة في الأرشيف الإسباني، ضمن مجموعة غير متوقعة من مئات رسائل الحب بين نساء إسبانيات ورجال مغاربة.
هذه الرسائل، تم الاستيلاء عليها ومصادرتها بين عامي 1930 و1950، فقط لأنها تروي علاقات حميمة محظورة.
وعلى مدى عقود، “قامت السلطات الاستعمارية التابعة للحماية الإسبانية في المغرب بمصادرة هذه الرسائل بشكل ممنهج”، حسب ما يقوله آرثر أسيراف، وهو مؤرخ بجامعة “كامبريدج”.
كانت صناديق البريد مليئة بالكلمات العاطفية الدافئة، والتي قطعت ديكتاتورية فرانكو، وعنصرية نظامه طريقها قبل أن تصل وجهتها؛ “أنا مجنونة بك… أنا أتيه بك هيامًا”، كتبت امرأة من فالنسيا لحبيبها المغربي.
هذه الرسائل المحرمة، احتوت في بعضها صورًا فوتوغرافية لتلك النسوة اللائي حبرْنَ كلماتها بالوله والتيه في حبٍ لا يعرف للديكتاتورية طعمًا ولا لونًا، بل هو مشاعر إنسانية لا تعترف إلا بنفسها.
وهناك العشرات من الصور لنساء بتسريحات شعر أنيقة، وزينة باذخة؛ لتذكير عشاقهن البعيدين بما كانوا عليه.
وقد أرسلت إحداهن صورة لها وهي تركب دراجة، وتلك لقطة خالية من هموم الحياة اليومية، التي كانت تعيشها إسبانيا في تلك الحقبة.
كل تلك الرسائل، وبعد مصادرتها من نظام الديكتاتور فرانكو؛ تم حفظها بعناية في مظاريف من قبل موظفين ذوي ضمير حي، ثم تم نسيانها بين الوثائق الإدارية.
وظل الغبار يتراكم عليها، حتى تم العثور عليها ونشرها من قبل الأكاديميين “جوزيب لويس ماتيو ديستي”، و”نيفيس مورييل غارسيا”.
وتحتوي كل رسالة على لمحة محيرة عن العلاقة بأكملها، وكل واحدةٍ تخبرنا أيضًا عن القمع الذي كان على العشاق مواجهته، وكيف بذل المسؤولون الإسبان كل ما في وسعهم لجعل هذه العلاقات مستحيلة.
منع الزواج بالمغاربة
سنة 1937، وكما جاء في أمر صدر كقاعدة عامة “يجب منع الزواج بين الجنود المغاربة والنساء الإسبانيات”.
منذ عام 1912، ادعت إسبانيا، إلى جانب فرنسا، السيادة على جزء من المغرب كمحمية، وقسمتا البلاد إلى منطقتين.
وقاوم المغاربة الإستعمار، ولا سيما في حرب الريف الطويلة والدموية، التي دارت رحاها بين عامي 1921 و1926، والتي مني فيها الجيش الإسباني بهزيمة نكراء، بقيادة عبد الكريم الخطابي.
وللتغلب على هذا التحدي، قامت الحكومة الإسبانية بزيادة عدد قواتها في المغرب وجندت آلاف المغاربة للخدمة في جيشها.
في ثلاثينيات القرن العشرين، وضعت إسبانيا عاصمة المستعمرة المغربية في تطوان، حيث أدارت فعليًا شريطًا طويلًا على طول شمال البلاد، من ساحل المحيط الأطلسي في أصيلة تقريبًا إلى الحدود مع الجزائر في الشرق.
ومن القواعد العسكرية في هذه المنطقة، نفذ الجنرال فرانسيسكو فرانكو في عام 1936 انقلابًا ضد الحكومة الجمهورية، مما أدى إلى بدء الحرب الأهلية الإسبانية.
الانتقال إلى إسبانيا
ومع تقدم الحرب الأهلية، تم فجأة إرسال آلاف الرجال المغاربة الذين جندهم الجيش الإسباني إلى البر الإسباني للقتال إلى جانب قوات فرانكو.
وبالإضافة إلى العسكريين، انضم إليهم الطلاب والتجار وغيرهم من العمال المغاربة الذين انتهى بهم الأمر مشتتين على جميع أنحاء إسبانيا، سواء في المدن أو في المناطق الريفية النائية.
وفي نهاية المطاف، وعلى النقيض من العديد من المناطقة الاستعمارية الأوروبية، تقع المناطق المغربية التي استعمرتها إسبانيا على مقربة شديدة من إسبانيا نفسها؛ ففي أضيق نقطة على مضيق جبل طارق، يقع الساحل المغربي على بعد 14 كيلومترًا فقط من الطرف الجنوبي لشبه الجزيرة الأيبيرية.
حب بركاني
وعلى أرصفة بلاد مستعمرهم، توزع المغاربة على جغرافيا بلاده التي تطحنها الحرب الأهلية، وأينما ذهبوا، وجد الرجال المغاربة نساءً إسبانيات، هاموا وهمن ببعضهم البعض حبًا.
ففي مدينة سالامانكا، التقت امرأة تدعى كونتشَا بالشاب ناصر، وهو جندي مغربي كان متمركزًا في مكان قريب.
وقعت كونتشَا في حب المجند المغربي بجنون، وكتبت إلى لمدرائها تطلب الإذن بالزواج منه في عام 1938، لكن بالنسبة للسلطات الاستعمارية الإسبانية، كان هذا الزواج محظورًا تمامًا.
أعرب المدراء عن استيائهم من كونتشَا، التي احتقروها لكونها عجوزًا، “قبيحةً، سمينةً مثل فرس النهر وذات عرجٍ طفيف”.
وقالوا أنهم يشتبهون في أن ناصر أبدى اهتمامًا بها فقط لأنه لديها منزل، مما أثار “حبهم البركاني”.
وكانت الأوامر الرسمية تقضي بفرض “أكبر قدر ممكن من الصعوبات” لمنع هذه العلاقات “دون حظرها علانية”، كما جاء في أمر صدر في عام 1937.
في الواقع، بما أن نظام فرانكو كان يعتمد على ولاء الجنود المغاربة، فإنه لم يجعل مثل هذه العلاقات غير قانونية بشكل واضح. وبدلا من ذلك، طوروا سلسلة كاملة من الوسائل لجعلها مستحيلة عمليا.
فعلى سبيل المثال، “إذا وجدت امرأة تكتب إلى مغربي، فسيتم منعها من دخول المغرب”.
وفي كثير من الأحيان، كانوا يمنعون المغاربة من دخول إسبانيا، مما يجعل علاقتهم مستحيلة.
“بريستيج العِرق”
في عام 1948، تم اعتراض رسالة بين كارمن، إسبانية من سرقسطة وعشيقها عبد السلام من المغرب، لتقوم سلطات الإستعمار في تطوان على الفور؛ بمنع كلاهما من العبور إلى الجهة الأخرى.
في الرسالة، قدمت كارمن أخبارًا عن ابنتها، التي ستكبر الآن دون رؤية والدها على الإطلاق، الخبر الذي قرأه المسؤولون، ولم يضعوا الفتاة الصغيرة في الاعتبار.
ولكن، لماذا رفضت إسبانيا هذه العلاقات وحاربتها، مع أنها كانت في حاجة إلى هؤلاء المغاربة الذين بلغ عددهم حوالي 100 ألف تتراوح أعمارهم بين 16 و50 عامًا، شاركوا في الحرب الأهلية الإسبانية.
“جزء من الجواب يكمن في الأيديولوجية الرجعية للديكتاتورية”، يوضح الدكتور آرثر أسيراف، وهو مؤرخ متخصص في تاريخ “فرنسا الحديثة وشمال أفريقيا والبحر الأبيض المتوسط”.
ويضيف “كانت حكومة فرانكو كارهة للنساء بشدة، وسيطرت بشكل صارم على حركة النساء وقيدت حصولهن على العمل”.
كما أن فرانكو اعتبر نفسه مدافعًا عن الكاثوليكية، ولأسباب دينية، اعتبر النساء المتزوجات من رجال مسلمين “فاقدات للإيمان”.
لكن السبب الأهم كان ما أسماه المسؤولون “بريستيج العِرق”؛ بمعنى أن هذا الزواج من مغاربة سيضيع هيبة الهوية الإسبانية حسب فهمهم.