التحرش الجماعي في ليبيا.. العنف مصير النساء في الفضاء العام

شهدت العاصمة الليبية طرابلس خلال احتفالات الذكرى الرابعة عشرة للثورة حادثة تحرش جماعي مروعة، حيث تعرضت امرأة واحدة لانتهاكات جسدية ولفظية في ساحة عامة. 

أثارت هذه الواقعة غضبًا واسعًا على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تبادل المواطنون مقاطع فيديو وصورًا توثق الحادثة، بينما ردت الأجهزة الأمنية بالصمت. 

فما الذي تكشفه هذه الحادثة عن وضع النساء في الفضاء العام الليبي؟ وكيف يمكن قراءة هذه الظاهرة ضمن سياق أوسع من العنف القائم على النوع الاجتماعي؟

الفضاء العام والهيمنة الذكورية

لطالما شكّل الفضاء العام الليبي ساحةً لإعادة إنتاج علاقات القوة غير المتكافئة بين الرجال والنساء؛ ففي مجتمع يتسم بسلطة أبوية متجذرة، غالبًا ما يُنظر إلى النساء فيه بالأماكن العامة على أنهنّ مجرد أجسادٍ تحتاج إلى الرقابة أو كعناصر دخيلة يجب ضبطها. 

ويعتبر الحقوقيون والمدافعون عن حقوق المرأة، أن التحرش، سواء كان لفظيًا أو جسديًا، فهو ليس مجرد سلوك فردي منحرف، بل هو ممارسة متكررة تهدف إلى إعادة ترسيخ هذه الهيمنة من خلال التخويف والإقصاء. 

وبالإضافة إلى ذلك، تُشير دراسة بعنوان “المرأة في الثورة الليبية بين تصدّر المشهد وتهميش الأدوار” إلى أن النساء الليبيات “يواجهن زيادة في مستوى العنف والتحرش في الفضاءين العام والخاص، مما يعكس الهيمنة الذكورية المتجذرة في المجتمع”.​ 

الحادثة التي شهدتها الذكرى الرابعة عشرة للثورة؛ قسمت ردود الفعل المجتمعية بين الإدانة القاطعة من جهة، والتبرير من جهة أخرى، حيث انتشرت خطابات تُرجع السبب إلى “لباس النساء” أو خروجهن إلى الأماكن العامة دون “حماية”. وهذا الخطاب ليس جديدًا، بل يعكس نمطًا متكررًا يتم فيه إلقاء اللوم على الضحية بدل التركيز على المسؤولين الحقيقيين عن العنف. أما على المستوى الرسمي، فلم يُعلن عن أي تحقيق رسمي جاد، ولم تصدر أي قرارات لتعزيز الأطر القانونية المتعلقة بمكافحة العنف القائم على النوع الاجتماعي.

الإطار القانوني: غياب الحماية والتشريعات غير المفعلة

رغم أن ليبيا صادقت على العديد من الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، بما في ذلك اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (CEDAW) في 1989، إلا أن التشريعات الوطنية لا تزال تعاني من انعدام الحماية الفعالة ضد العنف القائم على النوع الاجتماعي. 

ويتضمن قانون العقوبات الليبي موادًا تُجرم بعض أشكال الاعتداء، لكنه يفتقر إلى نصوص صريحة تُجرّم التحرش الجنسي بشكل واضح أو توفر حماية شاملة للضحايا، بل ويساء استعمالها من قبل الأجهزة الأمنية بهدف القبض على مجتمع الميم.

ولا يوجد نص صريح يُجرّم التحرش بمختلف أشكاله (اللفظي، الجسدي، الإلكتروني)، مما يترك الباب مفتوحًا أمام تفسيرات قضائية قد لا تنصف الضحايا وتجعل من الصعب معاقبة المتحرشين أو مساءلتهم قانونيًا. 

وتعتبر المادة 407 من قانون العقوبات المادة المجرمة للاغتصاب، لكنها تجرم “المواقعة” برضا أو دون رضا! مشددة على عقاب أقسى “للمواقعين” دون رضا: “كل من واقع آخر بالقوة أو التهديد أو الخداع يعاقب بالسجن مدة لا تزيد على عشر سنوات …. وكل من واقع إنساناً برضاه يعاقب هو وشريكه بالسجن مدة لا تزيد على خمس سنوات”.

وحتى في الحالات التي يُمكن فيها مقاضاة المتحرشين استنادًا إلى قوانين الاعتداء أو الإيذاء، غالبًا ما يتم تجاهل هذه القضايا بسبب الفساد، أو الضغوط الاجتماعية، أو غياب إرادة سياسية لتنفيذ القوانين بشكل صارم. 

أما المادة 408 تجرّم “هتك العرض” لكنها تعاقب أيضًا من “هُتِكَ عرضه” إذا أثبت الجاني “رضا” المجني عليه! بل ويساء استعمالها من قبل الأجهزة الأمنية بهدف القبض على المثليين خلال السنوات الماضية: “وكل من هتك عرض إنسان برضاه يعاقب هو وشريكه بالحبس”.

لا يوجد قانون شامل لحماية النساء من جميع أشكال العنف، على عكس بعض الدول المجاورة التي أقرت قوانين خاصة بذلك مثل تونس والمغرب. القوانين القائمة لا تفرض إجراءات لحماية الضحايا مثل أوامر التقييد أو توفير مأوى آمن. لا توفر الدولة الليبية نظام حماية فعّال للنساء اللواتي يبلغن عن التحرش أو العنف، ما يجعلهن عرضة للوصم المجتمعي أو حتى للانتقام.

دور الحركة النسوية: بين النضال والمقاومة

على الرغم من القمع الذي يواجهه النشاط النسوي في ليبيا، فإن الناشطات الحقوقيات لا زلن يواصلن المطالبة بحقوق النساء، وتحدي الأعراف الذكورية التي تشرعن العنف ضدهنّ. فهل يمكن للحركة النسوية في ليبيا أن تساهم في الضغط من أجل سياسات أكثر فاعلية لحماية النساء في الأماكن العامة؟

تقول أماني (اسم مستعار) وهي ناشطة نسوية ليبية: “ما حدث في طرابلس ليس مجرد حادثة فردية، بل هو انعكاس لبنية اجتماعية تُكرّس العنف ضد النساء كأداة لضبط وجودهن في الفضاء العام”.

وتضيف أن هذه الحادثة “تكشف عن مشكلة أعمق، وهي أن النساء في ليبيا يُنظر إليهن ليس كأفراد يتمتعون بحقوق وحريات، بل كأجساد يجب السيطرة عليها”، مشيرة إلى أن هذا ليس جديدًا، “لكنه يزداد حدة في ظل تصاعد الخطابات الرجعية وتراجع المساحات المدنية التي يمكن للنساء المشاركة فيها بأمان”.

“غياب المحاسبة مرتبط بثلاثة عوامل رئيسية: تواطؤ المؤسسات الرسمية، صمت السلطات ليس فقط تقصيرًا بل هو رسالة واضحة بأن النساء لا يمكنهن الاعتماد على الدولة لحمايتهن”، توضح أماني لمنصة “هنَّ”.

وترى الناشطة النسوية أن الثقافة المجتمعية المبررة للعنف، والخطابات التي تلقي اللوم على النساء بسبب لباسهن أو وجودهن في الفضاء العام دون حماية؛ “تُعيد إنتاج العنف وتُشرعنه. ضعف الحركة النسوية في ظل القمع، الناشطات في ليبيا يواجهن تحديات أمنية وقانونية كبيرة، ما يجعل الضغط من أجل تغيير القوانين أو محاسبة الجناة معركة صعبة”.

حادثة غير معزولة

إن حادثة التحرش الجماعي في طرابلس ليست معزولة، بل هي انعكاس لمجتمع يعاني من خلل بنيوي في علاقته مع النساء والفضاء العام. والتصدي لهذه الظاهرة لا يقتصر فقط على المعالجات الأمنية، بل يتطلب إعادة النظر في القوانين، وتعزيز دور النساء في السياسة، وتغيير الخطاب المجتمعي السائد حول دور المرأة وحقوقها. 

وترى ناشطات نسويات إستشارهم “هنَّ” أنه يجب سن قوانين واضحة تُعرّف التحرش الجنسي بجميع أشكاله وتحدد عقوبات صارمة، وتوفير مراكز دعم للنساء الناجيات من العنف، تشمل المساعدة القانونية، والدعم النفسي، والمأوى عند الحاجة. 

كما يجب فرض برامج توعية إلزامية حول العنف ضد النساء في المؤسسات التعليمية ووسائل الإعلام. الحادثة ليست مجرد مأساة فردية، بل فرصة لكسر الصمت وإعادة فتح النقاش حول حقوق النساء في ليبيا. إذا لم نتحرك الآن، ستتكرر مثل هذه الجرائم، وربما بأسوأ مما شهدناه.

اقرأ أيضا

  • ختان البنات موروث ملطخ بالدم

    تنتشر ظاهرة ختان الإناث بصورة كبيرة في عموم مناطق موريتانيا، إذ تحتل البلاد المرتبة الثامنة عالمياً. ويعتبر ختان البنات موروثاً وتقليداً في المجتمع الموريتاني ويهدف إلى المحافظة على عذرية البنات و"تهذيب شهوتهن" الجنسية، وفقا للمدافعين عنه بينما تشجب فئات اجتماعة أخرى في البلاد هذه الظاهرة.

    Hounna | هنّ|

  • “عادي يمكنكِ تحمّل الألم”.. معاناة صامتة تعيشها الجزائريات مع مرض “بطانة الرحم المهاجرة”

    في غرف المستشفيات وعيادات الأطباء، وبين جدران المنازل، تعيش آلاف الجزائريات معاناة صامتة مع مرض لا يزال يجهله الكثيرون، إنه مرض بطانة الرحم المهاجرة، الذي يسرق منهن أيام العمر، ويجعل من كل دورة شهرية معركة جديدة ضد الألم واليأس، بل وحتى ضد العقم، حيث لايزال الحديث عنه طي الكتمان، وكأن معاناة النساء مع هذا المرض…

    ماجدة زوين|

  • ” أنا أمه وأنا وليُّه”.. أمهات مطلقات يدافعن عن حقهن في الولاية القانونية على أبنائهن 

    "أنا وأبنائي تحت وصاية هذا الرجل حتى بعد الطلاق"، هكذا باختصار، تصف خديجة وضعها بعد مرور أزيد من أربع سنوات على طلاقها من زوجها "المعنّف"، وتحملها المسؤولية الكاملة على ابنيها في غياب الأب. تحكي خديجة (31 سنة)، في حديث لمنصة "هنَّ" عن تجربتها مع هذا الزوج التي قالت أنها اختارته شريكا لحياتها بعد قصة حب…

    هاجر اعزة|

  • الخادمات المنزليات.. إستعبادٌ للقاصرات في المغرب 

    رغم دخول قانون يمنع تشغيل خادمات المنازل اللواتي لم يبلغن سن الرشد؛ حيز التنفيذ في أكتوبر من السنة الماضية، إلا أن هذا القانون لم يجد طريقه بعد إلى التطبيق، بحيث لاتزال العديد من الأسر المغربية، تشغل القاصرات المنحدرات من القرى والبوادي، وتلك صورة يصفها الكثير من المدافعين عن حقوق الإنسان بأنها "عبودية حديثة". وجعل هذا…

    Hounna | هنّ|

  • الفيديوهات

  • “لم نتوصل بالدعم”..نساء الحوز يكشفن الوجه الآخر لإهمال ضحايا الزلزال

    يبدو أن بلدة مولاي إبراهيم بإقليم الحوز، جنوب مدينة مراكش، لن تتعافى قريبا من تبعات الزلزال الذي بعثر سبل العيش هناك، خاصة أن أغلب سكان البلدة كانوا يعيشون على نشاط السياحة الداخلية التي يجلبها ضريح مولاي إبراهيم، فالتجارة والإيواء وخدمات أخرى توفرها الساكنة، خاصة نسائها، توقفت اليوم بشكل كلي، ولا أمل يلوح في الأفق لعودة…

  • محاكمة عسكرية للمعارضة التونسية شيماء عيسى

    لم تغلق المحكمة العسكرية بعد، ملف محاكمة شيماء عيسى، المعارضة التونسية والقيادية في جبهة الخلاص الوطني، فقد تم تأجيل جلسة، محاكمتها إلى 10 أكتوبر، القادم.

  • ختان البنات موروث ملطخ بالدم

    تنتشر ظاهرة ختان الإناث بصورة كبيرة في عموم مناطق موريتانيا، إذ تحتل البلاد المرتبة الثامنة عالمياً. ويعتبر ختان البنات موروثاً وتقليداً في المجتمع الموريتاني ويهدف إلى المحافظة على عذرية البنات و"تهذيب شهوتهن" الجنسية، وفقا للمدافعين عنه بينما تشجب فئات اجتماعة أخرى في البلاد هذه الظاهرة.

  • فاطنة بنت الحسين.. أسطورة العيطة وأيقونة الفن الشعبي في المغرب

    ولدت فاطنة بنت الحسين في منتصف الثلاثينات بمنطقة سيدي بنور، التابعة لدكالة، من عائلة قروية محافظة رفضت ولوجها مجال الغناء، نظرا للسمعة السيئة التي كانت ملتصقة بـ"الشيخة" وقتها. انتقلت فاطنة إلى مدينة اليوسفية، وهناك انضمت إلى فرقة "الشيخ المحجوب"، وزوجته "الشيخة العبدية"، لتحصد شهرة واسعة وصل مداها إلى مدينة آسفي، معقل "العيطة الحصباوية"، وبعدها مدينة…

  • ناسجات الحياة.. نساء بالحوز ينسجن الزرابي بين أنقاض الزلزال

    بالقرب من مركز جماعة أسني بإقليم الحوز، اجتمعت أربع نسوة بدوار "أسلدا" ينسجن الزرابي، بحثا عن مورد رزق، في كوخ من القصب ومغطى بالبلاستيك وورق التعليب، بعد أن دمر الزلزال المكان الذي كن يشتغلن فيه، والذي كان مقرًا لـ"جمعية الدوار"، قبل أن يحوله الزلزال إلى أطلال. في البداية، تحديدًا قبل ثلاثة سنوات من جائحة "كورونا"؛…

  • منع مسيرات تضامنية مع فلسطين “دعم لجرائم الإبادة”

    🟠 منعت مسيرات احتجاجية ضد العدوان الإسرائيلي، تخليدا ليوم الأرض الفلسطيني، نهاية الأسبوع الماضي، من طرف قوات الأمن في عدد من المدن المغربية، ما خلف تنديدا واستنكارا واسعينِ من طرف المشاركين في تلك الاحتجاجات.

  • العاملات الفلاحيات هنّ الأكثر تضررا من التغيرات المناخية

    🔶تعاني الدول المغاربية منذ سنوات من الجفاف على مدار السنة ، ما فاقم نسبة الفقر عموما بهذه الدول وخاصة لدى النساء، وفقدت آلاف العاملات في مجال الفلاحة مورد رزقهن.