لا يمكن الحديث عن مدرسة عمومية ناجعة في ظل انهيار أبسط مقومات البنية التحتية. في تونس، لم تعد المدرسة تمثّل ذلك الفضاء الآمن والضامن للحق في التعلم، بل تحوّلت في كثير من المناطق إلى مصدر تهديد حقيقي لحياة التلاميذ والإطار التربوي.
حوادث متكررة، فواجع مروّعة، ومشهد عام يغلب عليه التهميش والإهمال، كلها مؤشرات تؤكد أن أزمة المدرسة التونسية اليوم لم تعد تربوية فقط، بل هي بالأساس أزمة سياسية، اجتماعية وإنسانية.
حوادث الموت
في الفضاء الذي يُفترض أن يوفر الحماية ويكون الأكثر أمانًا على سلامة التلاميذ الجسدية والنفسية، يلقى ثلاثة تلاميذ حتفهم في معهد معتمدية المزونة من ولاية سيدي بوزيد بالوسط التونسي. وتأتي حادثة سقوط حائط سور المعهد، الذي كان آيلاً للسقوط ولم يقع ترميمه أو هدمه رغم التنابيه الصادرة في شأنه، لتعيد إلى واجهة النقاش العام مسألة واقع المؤسسة التربوية في تونس، وتواصل تجاهل السلطات الرسمية لواقعها الكارثي.
ولا تُعدّ حادثة معهد المزونة الفاجعة الأولى التي تشهدها جهة سيدي بوزيد، فقد سبقتها فاجعة مدرسة الهدى بمنطقة الرضاع سنة 2017، حيث توفيت تلميذة بالسنة الرابعة من التعليم الأساسي، سنها تسع سنوات، بعد إصابتها بفيروس التهاب الكبد الفيروسي (بوصفير) نتيجة سوء وضعية البيئة والمحيط داخل المدرسة وغياب وحدات صحية صالحة للاستعمال ومياه نظيفة، ورغم الوعود التي تلت الحادثة بصيانة المدرسة وتجهيزها بالماء الصالح للشرب وبناء قاعات جديدة وسياج ووحدة صحية، فإن شيئًا من ذلك لم يتحقق إلى اليوم.
ويعيش نفس الواقع عدد من المدارس الأخرى مثل مدرسة الزفزاف، مدرسة عين جفال، مدرسة سلْتة 1، مدرسة سلْتة 2، ومدرسة البوع 1، وجميعها تشكو من غياب الوحدات الصحية والماء الصالح للشرب وتهرّؤ البنية التحتية.
بنية مهترئة وصيانة غائبة
وعند التوسّع في دائرة التشخيص، يتبيّن أن جزءًا لا بأس به من المؤسسات التربوية يشكو من غياب الصيانة وتهرّؤ البنية التحتية إلى حد الانهيار، ما يشكّل خطرًا على الإطار التربوي والتلاميذ على حدّ سواء. ففي سبتمبر 2016، سقط جزء كبير من سقف قسم بمدرسة بمدينة القيروان وتم حينها اتخاذ قرار بإغلاقها إلى حين الترميم، دون تسجيل أضرار بشرية.
وفي أكتوبر 2019، سقط سقف قسم في مدرسة بمعتمدية الحنشة من ولاية صفاقس، ولحسن الحظ كان ذلك قبل دخول التلاميذ إلى القسم. أما في سبتمبر 2021، فقد أدى سقوط جزء من سقف قسم بمدرسة بمنطقة الكرم من تونس العاصمة إلى إصابة ثلاثة تلاميذ بجروح طفيفة.
وفي أكتوبر 2023، سقط جزء من قسم بمدرسة بمعتمدية بوعرادة من ولاية سليانة دون تسجيل إصابات. وفي ماي 2024، انهار سقف قسم بمدرسة في منطقة ريفية تابعة لمعتمدية بوحجلة بولاية القيروان، دون أضرار بشرية تُذكر.
“ليس الجدار هو الذي سقط بل المنظومة”
وتشير أميرة رداوي، عن “نقابة التعليم الأساسي بسيدي بوزيد”، في تصريح لـ”هنَّ”، إلى أن التلاميذ الذين ماتوا تحت سور معهدهم هم “ضحايا المدرسة العمومية، وضحايا التفقير والتهميش وتغييب العدالة الاجتماعية”.
وأكدت على أن “نقابات التعليم الابتدائي والثانوي سبق أن نبّهت، في بياناتها وتحركاتها الاحتجاجية، إلى الوضع الكارثي للبنية التحتية للمؤسسات التربوية”.
“ومن بين أبرز المطالب إصلاح المنظومة التربوية، وخاصة البنية التحتية التي أصبحت تمثّل خطرًا كبيرًا على العاملين فيها وعلى التلاميذ”، توضح رداوي لمنصة “هنَّ”.
وأضافت أن المدرسة التونسية “تفتقر إلى الحاجيات والمقومات الأساسية للحياة كالماء الصالح للشراب والوحدات الصحية، كما يعاني التلاميذ مشقة التنقّل، خاصة في المناطق الريفية، بسبب غياب أو نقص وسائل النقل، والتي وإن توفّرت فهي غير محمية وغير صالحة لنقل التلاميذ”.
“هذا بالإضافة إلى سوء حالة المسالك الفلاحية الرابطة بين المنازل والمدارس، مما يؤدي إلى حوادث متكررة وإصابات ووفيات في صفوف التلاميذ”، تؤكد المتحدثة.
وكشفت أن الدروس “مازالت تتعطّل لمجرد تهاطل الأمطار أو سوء الأحوال الجوية، كما تشكو المدارس من الاكتظاظ ونقص الإطار التربوي”.
وترى ممثلة نقابة التعليم الأساسي بسيدي بوزيد، أنه “ليس الجدار هو الذي سقط وأدى إلى وفاة التلاميذ، وإنما المنظومة والرؤية والسياسة التي تنتهجها وزارة التربية والسلطة عمومًا في علاقتها بالمدرسة العمومية”.
وتعتبر أنها فاجعة “عرّت واقع المدرسة العمومية وما تعانيه من إهمال وتهرّؤ في بنيتها التحتية. والمعني بهذه الوضعية الآلاف من المؤسسات التربوية في المناطق المهمشة والمحرومة، والتي أصبحت، بعد تخلي الدولة عن مسؤوليتها في ضمان الحق في التعليم الآمن، فضاءات للخطر والعنف والموت بدلًا من أن تكون منارات للتعلّم وتسلق السلم الاجتماعي”.
جهود غير كافية لا ترتقي لتقديم خدمات تربوية
وتفيد تقارير رسمية وأخرى صادرة عن منظمات وجمعيات أن وضعية المدارس والمعاهد في جزء هام منها غير مهيأة، حيث تفتقر إلى الترميم والصيانة، كما تغيب المياه الصالحة للاستعمال أو الصرف الصحي أو المجامع الصحية، خاصة في المدارس الموجودة بالمناطق الريفية.
ويُظهر تقرير صادر عن “المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية” أن عدد المدارس غير المرتبطة بشبكة الماء الصالح للشرب “يبلغ 527 مدرسة، أي ما يمثل نسبة 12 بالمائة من إجمالي المدارس الابتدائية في البلاد، والتي يُقدّر عددها بـ4583 مدرسة”.
ولا تقتصر هذه المشاكل اللوجستية على المدارس المذكورة، بل يمكن تعميمها على جميع ولايات الجمهورية بدرجات متفاوتة، بين المدارس الموجودة في المدن، وتلك الواقعة في التخوم والمناطق الريفية.
وتقر وزارة التربية، مع كل عودة مدرسية، بحجم الإشكاليات المتعلقة بالبنية التحتية، حتى أنها تعترف دوريًا بعدم قدرتها وإمكانياتها لمعالجة هذه المعضلة.
وسنويًا، تقدم منظمات المجتمع المدني أو لجان الأولياء أو بعض المؤسسات الاقتصادية مساعدات ومرافقة لجهود الوزارة، لكنها تظل غير كافية ولا ترتقي لتقديم خدمات تربوية متكافئة تشمل النقل، والبنية، والإطار التربوي، لكل التلاميذ على كامل تراب الجمهورية.
وبذلك، تسجّل عدة مدارس ريفية انطلاقة دراسية “عرجاء”، تصل فيها نسب التأخير إلى شهر أو أكثر، في حين تكون العودة المدرسية أكثر سلاسة في المدارس المتمركزة بالمدن الكبرى التي تحظى بالأولوية في اختيار الإطار التربوي، والصيانة، والنظافة، والتأمين.
ويصعب بيان الوضعية الحقيقية لشبكة المدارس العمومية، إذ تعتمد وزارة التربية سياسة تعتيم وعدم تجاوب فيما يتعلق بالمعلومات والمعطيات، كما لا يتم تحيين الأرقام المعلنة بشكل دوري.
وخلُصت عملية تشخيص شملت 193 مؤسسة تربوية في ولايات الشمال الغربي (باجة، الكاف، جندوبة، وسليانة) قامت بها “الجمعية التونسية من أجل الحقوق والحريات” خلال شهر يناير 2022، إلى أن “معظم هذه المؤسسات تعاني من اهتراء البنية التحتية، وغياب النقل المدرسي، وانعدام الماء الصالح للشراب، وعدم استجابة شبكات الصرف الصحي للشروط الصحية، إلى جانب خطورة الطرق المؤدية إليها، إما بسبب طبيعتها الوعرة، أو مرورها بالغابات، أو تهديدات إرهابية”.
جدير بالذكر، أن ما يحدث في مدارس تونس، وخاصة في المناطق الداخلية، ليس صدفة ولا قدَرًا، بل نتيجة واضحة لاختيارات سياسية واقتصادية قادت إلى تفقير المدرسة العمومية وتهميشها.
وتجمع المصادر التي استشارتها هذه المنصة، على أنه لم يعد من المقبول أن يُختزل الحق في التعليم في فتح أبواب المدارس فقط، بل يجب أن يكون الحق في التعليم آمنًا، متكافئًا، ومحترِمًا للكرامة البشرية.
واليوم، لم تعد المطالب تقتصر على الترميم أو توفير الماء، بل تتجاوز ذلك نحو إعادة الاعتبار للمؤسسة التربوية كركيزة لبناء العدالة الاجتماعية والمواطنة.