بعينين ملؤهما الدمع، وبجسدٍ هزيل مرتعش، واجهت الطفلة وفاء ذات الـ13 ربيعًا مصيرًا مروعًا، كانت ضعيفة منهزمة في قبضة وحوش آدمية، استباحوا جسدها كلقمة يسيرة سائغة، لم يكترثوا لبراءتها ولا لإعاقتها، كان همهم الوحيد هو إشباع نزواتهم الشاذة، بسادية متوحشة.
لشهور طويلة، أذعنت الطفلة لطلبات مغتصبيها الثلاثة تحت طائلة التهديد، كانت تخاف التشهير وإذاعة الخبر في أرجاء “دوار ولاد عراض” حيث تقطن (نواحي مراكش وسط المغرب)، لكن العائق الرئيسي الذي منعها من وضع حد لمعاناتها كان خوفها على سلامة أسرتها من بطش الوحوش، لمكانتهم الاعتبارية بالمنطقة.
هددوها كثيرا ليستمر استغلالها الجنسي في الخفاء، هددوها لينهشوا لحمها الطري بلا مقاومة منها، كانت تبكي وضعها المؤلم صباح مساء، لكنها استمرت في كتمان السر، إلى أن برز بطنها وأيقن الجميع أنها حامل، فكانت الواقعة صدمة قاسية بالنسبة لوالديها.
وبمجرد ظهور حملها، عانت وفاء من تنمر التلاميذ بالمدرسة واحتقارهم، كان ذهابها للدراسة بمثابة الجحيم، فعوض التركيز لاستيعاب الدروس وتحصيل المعرفة، وجدت الطفلة نفسها في صراع يومي مع الكلام الجارح والنظرات الدونية، فاختارت أخيرا أن تتوقف عن الدراسة.
اصطحب الأب وفاء للقيام بالفحوصات اللازمة، فتم اكتشاف حملها في الشهر الخامس والنصف، مكلوماً يسألها عن الوالد، فلا تنبس الفتاة ببنت شفة، يكرر السؤال، فتنهض من مكانها وتجري إلى الخارج، “لم تتجرأ قط على البوح بشيء رغم إلحاحنا أنا ووالدتها لمعرفة الفاعل، كانت كتومة وخائفة، كنت أعتقد أن الأمر يتعلق بشاب في مثل سنها أو أكبر بقليل، جمعتهما علاقة عادية، لكن الأمر أفدح مما توقعنا، اتضح أن الجناة ثلاثة مسنين، أعرفهم فرداً فرداً، وهم أشخاص ذوو مالٍ ونفوذ”، يقول الوالد لـ”هنَّ”.
الأب: حماية ابنتي وحفيدي أولويتي وإن كلفني الأمر حياتي
ويحكي الشكدالي والد الطفلة، في تصريحٍ لـ”هنّ”، كيف أنها تحاشت الكشف عن هوية الفاعلين إلاّ بعد مثولها أمام عناصر الدرك الملكي، هناك صرحت بهوية شخصين، لتتحدث عن الثالث فيما بعد.
يتذكر الوالد جيدا كيف كان يسير أمامها منزعجا بعد مغادرتهما لمركز الدرك، بسبب إخفائها للوقائع عنه، لحقت به وفاء مهرولة وتمسكت بذراعه، فأخبرته أنها تخشى عليه من جبروتهم، إذ هددوها بالاعتداء عليه إذا أخبرته بحقيقة معاناتها.
تم اعتقال الجناة فور الاشتباه بارتكاب الأفعال المنسوبة إليهم، شعرت وفاء حيال ذلك ببعض الارتياح، وتأكدت بأن وجودهم في السجن سيحميها كما سيحمي أسرتها من شرهم، إلاّ أن الجرح لن يندمل حتى يلاقوا الجزاء الذي يستحقونه. يوضح الشكدالي: “تعيش طفلتي حالة نفسية صعبة تنضاف إلى إعاقتها الذهنية الطفيفة التي تم تشخيصها بعد زيارة طبيبة مختصة، كما أنها تعاني من تلعثم في النطق، كل ذلك لم يشفع لها عند الجناة الذين لم يتوانوا عن العبث بجسدها وتدمير طفولتها”.
“ابنتي تحملت ما لا يتحمله الكبار، وكل ما أرجوه الآن هو أن تأخذ العدالة مجراها، ليكونوا عبرة لكل من تسول له نفسه استغلال البراءة والضعف”، يضيف الشكدالي لهذه المنصة.
كانت وفاء تخشى تغير تعامل والدها معها بسبب ما حدث، خصوصاً بعد وضعها للطفل قبل بعضة أيام، غير أن ذلك لم يحصل، “ضممت ابنتي بقوة، وأخبرتها أنني لن أتغير مهما حصل، وأنها ستبقى طفلتي المدللة التي أحبّها بجنون، أخبرتها أن إبنها هو إبني، ولو أن الأمر كان ممكنا لسجلته بالدفتر العائلي وأصبحت والده، لذلك فنحن الآن متشبثون بإثبات نسبه عبر الخبرة الجينية، وتمكينه من حقوق البنوة كاملة”، يؤكد الوالد، مضيفًا، “أما عن الواجبات المادية، فأنا مستعد للتكفل به كما تكفلت بأبنائي الخمسة”.
وضعت الفتاة رضيعا مزهرا بجماله الفطري ووجهه الصغير المفعم بالنقاء، بعينين واسعتين تتأملان العالم بنظرة بريئة، كلؤلؤتين متوهجتان وسط بشرة بيضاء ناعمة، كانت يداه الغضتين تتلمسان الهواء بحركات عفوية، كما لو كانا يحاولان إفساح مكان لهما في الحياة. كل حركة منه تبعث في القلب بعض الدفء، اختارت له العائلة من الأسماء “جاد”، من الجود والعطاء، ليكون رمزا لحياة جديدة رغم قساوة الظروف.
“لن أتخلى عنه أبدا ولو كلفني الأمر حياتي، هو ملاك من ملائكة الرحمان، كله براءة وصفاء، لا ذنب له فيما حصل”، يقولها الشكدالي، قبل أن يستطرد: “لن أتنازل عن حق ابنتي وحفيدي، وسأطالب بأشد العقوبات في حق هؤلاء المجرمين، وتمكين الوليد من النسب”.
محامي: منظومة قانونية لا تنصف الضحايا
شهدت غرفة الجنايات الابتدائية لدى محكمة الاستئناف بمراكش، يوم الأربعاء الماضي، الجلسة الرابعة لمحاكمة المتهمين الثلاثة في قضية اغتصاب الطفلة وفاء، حيث مثل المتهمون أمام القضاء في حالة اعتقال، في حين نصبت الجمعية المغربية لحقوق الإنسان نفسها طرفا مدنيا في القضية إلى جانب الطفلة ونائبها الشرعي، ممثلةً بمحامي الجمعية عبد الإله تاشفين دفاعا عن الضحية. وقد تم تأخير جلسة الحكم إلى الخامس من فبراير المقبل من أجل الإطلاع على الوثائق لإعداد أوجه الدفاع.
ويقول تاشفين، في حديثه مع “هنّ”، أن الدفاع “سيسعى بكل الوسائل إلى توضيح الوقائع الحقيقية للنازلة أمام المحكمة، لتوفر الأركان المادية والمعنوية للجنايات، وهي استدراج قاصر يقل عمرها عن 18 سنة، معروفة بضعف قواها العقلية، باستعمال التدليس والتغرير وهتك العرض بالعنف نتج عنه افتضاض، طبقا للفصول 471، 475، 485 الفقرة 2، و488 من القانون الجنائي”.
وأكد تاشفين على أن “الدفاع يحرص على الوصول إلى الحقيقة كاملة، وعدم إفلات المتهمين من العقاب، ومعاقبتهم بأشد العقوبات طبقا للقانون، لتحقيق الردع الخاص والعام نظرا لخطورة الجرم، ولتفادي تكرار مثل هذه الجرائم، وأيضا لجبر ضرر الضحية”.
واستحضر تاشفين قضايا اغتصاب مشابهة لأطفال وقاصرين، “كانت الأحكام بشأنها جد مخففة”، مشيرا إلى أن ذلك “يبرز ضعف المنظومة القانونية التي لا تنصف الضحايا كما ينبغي، بالإضافة إلى ضعف التكوين الحقوقي لدى عدد من القضاة، الشيء الذي يضيع حقوق الطفولة”.
وشدد الدفاع على “ضرورة البحث فيما إذا كان هناك متورطون آخرون، لاسيما وأن الضحية تلميذة قاصر تبلغ من العمر 13 سنة، وتعاني اضطرابا عقليا، ما يصعب معه تحديد الفاعلين بدقة بناء على تصريحاتها. كما سيطالب الدفاع بإجراء مجموعة من الخبرات لتحديد خطورة الاعتداء والعنف الجنسي، والمدة الزمنية الدقيقة للاعتداء، ومدة الحمل وحالته”.
وأكد أن ترافع الدفاع سيصب على “ضرورة اعتماد الخبرة الجينية لإثبات نسب المولود، ومعرفة الأب البيولوجي، لاسيما مع تعدد الجناة”.
“سيقوم الدفاع بكل الإجراءات القانونية من أجل إثبات نسب الرضيع، لأن النسب يعد من أبرز حقوق الطفل، التي تكفلها جميع المواثيق الدولية للطفولة”، يوضح تاشفين.
وعن رفض المجلس العلمي الأعلى الأخذ بنتائج الخبرة الجينية لإلحاق النسب في التعديلات الجديدة لمدونة الأسرة، يرى تاشفين أن هذا الرأي “يشكل تراجعا حقوقيا خطيرا”.
وختم تاشفين تصريحه بالتأكيد على ضرورة توفير السلطات المسؤولة الرعاية الصحية والمواكبة النفسية للضحية، ومولودها وأسرتها.
“الجمعية المغربية لحقوق الإنسان”، وفي إطار متابعتها لملف اغتصاب وفاء، الذي نتج عنه حمل وولادة يوم 10 يناير بمستشفى السلامة بقلعة السراغة، تؤكد “مؤازرة الضحية وأسرتها أمام القضاء”.
وأعلن فرع الجمعية بالعطاوية في بيان له، توصلت “هنَّ” بنسخة منه، تشبثه “بإجراء الخبرة الجينية لتحديد نسب المولود”، مطالبًا “بتصليب وتشديد العقوبات على كل المتورطين في هذا الانتهاك الجسيم لحقوق طفلة تعاني من إعاقة ذهنية”.
كما تسعى الجمعية إلى “وضع حد للإفلات من العقاب في جرائم الاغتصاب والانتهاكات الفضيعة لحقوق الطفلات والأطفال، بهدف إقرار قواعد العدل والانصاف لفائدة الضحايا وأسرهم والمجتمع”، حسب ذات المصدر.
خبيرة: المغتصَبة تفقد الإحساس بالأمان
في محاولة لمقاربة وضع الفتاة النفسي، قالت بشرى المرابطي، الأخصائية النفسية والاجتماعية، أن تعرض وفاء للاغتصاب الجماعي، خصوصا مع إعاقتها الذهنية، ليس بالأمر الهين، حيث يحدث لديها ما يعرف في الطب النفسي بمتلازمة “صدمة الاغتصاب”، التي تنتج أعراضا نفسية حادة وخطيرة يمر صاحبها بمجموعة من المراحل.
وكشفت، في حديثها مع منصة “هنّ”، أن المرحلة الحادة التي تمر منها المتعرضة للاغتصاب تحدث في الأيام والأسابيع الأولى، وقد تمتد إلى أشهر، حيث تظهر على الضحية ثورة هستيرية من نوبات بكاء أو قلق، وقد تعاني من اضطراب “تبلد الأحاسيس” نتيجة لما يسمى بـ”إنكار الصدمة” التي قد لا تتذكر معها الضحية ما حصل.
واستعرضت عددًا من الاختلالات النفسية الأخرى التي قد تعاني منها الفتاة، منها الارتباك، وصعوبة التركيز والقيام بالمهام اليومية، وضعف اليقظة والذاكرة، بالإضافة إلى التقيؤ وغثيان بسبب تذكر بعض المشاهد المقززة، والارتعاش، والهوس في غسل وتنظيف الجسد.
وتضيف المرابطي أن الطفلة المغتصَبة “تفقد الإحساس بالأمان، كما يلازمها الشعور بالتردد والتخوف في إنشاء علاقة جنسية أو عاطفية حينما تكبر، وحتى بعد تلقيها العلاج النفسي اللازم”، بالإضافة إلى نوبات الهلع والأرق والكوابيس المتكررة وتقلب المزاج، كما تعاني بعض الفئات من “إضطرابات السيكوسوماتية”، أي ظهور آثار الاضطراب النفسي على الجسد العضوي، دون وجود مسببات بيولوجية أو فيزيولوجية.
وأشارت إلى أن موضوع الحمل يزيد من حدة المعاناة النفسية للطفلة، “فهي ليست أما عادية نظراً لوجود طفل خارج إطار مؤسسة الزواج، وليست أما عادية أيضا بسبب صغر سنها، إذ لا تزال طفلة. كما أنها تعاني في الوقت ذاته لأن الطفل الذي يُفترض أن تحبه هو نتيجة لحدث أليم ومؤلم ترك أثرا عميقا في نفسها”.
ورأت أن الحل الأنسب في مثل هذه الحالات هو الإيقاف الإرادي للحمل، تجنبا لتفاقم معاناة الطفلة، وللحيلولة دون أن يعيش المولود حياة صعبة نتيجة ارتباك العلاقة مع أمه، حيث تختلط مشاعر الأمومة بالذنب وألم التعرض للاغتصاب.
“قد يتولد لدى الطفلة الأم شعور بالكراهية تجاه رضيعها، لأن وجوده يذكرها بما عاشته من معاناة”، تضيف المرابطي.
واقترحت الأخصائية النفسية أن تتولى الأسرة، وتحديدا الجد والجدة، رعاية الطفل بعد فترة الرضاعة، ليصبحا بمثابة والديه ويتحملانِ مسؤولية تربيته، مما يتيح للطفلة فرصة تلقي العلاج النفسي لتجاوز آلامها وجراحها، معتبرة هذا الحل الأنسب للتخفيف من معاناتها وإعادة بناء حياتها.
وشددت المرابطي على ضرورة تقديم المرافقة النفسية للطفلة في المستشفى الإقليمي القريب من منطقتها، مؤكدة أهمية دور الأسرة في ضمان استفادة الفتاة من هذه الرعاية، نظرا لصعوبة الوضع الذي تمر به.
وهو نفس المطلب الذي دعت إليه “الجمعية المغربية لحقوق الإنسان”، في بلاغها حول القضية، إذ حثت على ضرورة “توفير الرعاية الصحية والمواكبة النفسية للضحية”.
الوصم والرحيل
من جهة أخرى، أفادت المرابطي أن الوصم الاجتماعي يزيد من معاناة الأطفال الناتجين عن علاقات جنسية رضائية أدت إلى حمل، مشيرة إلى أن هذا الوصم يترك آثارا نفسية عميقة على هؤلاء الأطفال وأسرهم، إذ يذكرهم المجتمع باستمرار بما حدث، حتى لو حاولت الأسرة، والأم خصوصا، تجاوز الأمر ونسيانه.
وتشير إلى أن هؤلاء الأطفال يتعرضون مع مرور الوقت للعديد من النعوت الجارحة، مثل “ولد الحرام”، و”ولد الزنا”، ما يؤثر على نفسيتهم ويجعلهم عرضة للتنمر والإقصاء، خاصة حينما يبدأون بالخروج للعب والتعامل مع الآخرين.
وأوضحت المرابطي أن العديد من الأسر التي تعيش هذه الظروف تحاول خلق روايات بديلة لحماية التوازن النفسي والاجتماعي للطفل، لكن الوصم يبقى قائما، خاصة في الأحياء حيث يعرف الجيران تفاصيل ما حدث. وأكدت أن بعض الأطفال يدخلون في صراعات مع أسرهم نتيجة هذه الأوضاع، مما أدى في بعض الحالات إلى وقوع جرائم.
وفي غياب حملة توعوية شاملة للحث على احترام الأطفال المتخلى عنهم، اعتبرت المرابطي أن الحل الوحيد في هذه الحالة هو الانتقال للعيش في مدن أخرى بعيدة، حيث لا يعرف أحد ماضي الأم والطفل، مع ضرورة الالتزام بالكتمان للحفاظ الاستقرار النفسي والاجتماعي.
ذلك ما فعلته أسرة وفاء، فقبل أيام قليلة، غيرت الأسرة محل سكنها، لتنتقل إلى دوار آخر بمنطقة المعطاوية بإقليم تاملالت، وقد أشارت “الجمعية المغربية لحقوق الإنسان” إلى ذلك في بلاغها، مبرزة أن مغادرة القرية كان تحت ضغط “الحكرة” و”النظرة المجتمعية الدونية”، على حد وصفها.
يائسا ومدمرا، يحكي الأب كيف أن كلام الناس أنهكه، فاضطر إلى الرحيل “لم يعد بمقدوري تحمل ما يقال عن وفاء، فاتخذت قرار الرحيل إلى مكان لا يعرفنا فيه أحد، نتأقلم الآن جميعنا مع الوضع الجديد، وفي العام المقبل سأحرص على تسجيل ابنتي بالمدرسة لتستأنف الدراسة في السنة الخامسة ابتدائي، في محيط جديد خال من التنمر والوصم الذي كان ملازم لها بعد هذه الواقعة”.