أينما توجد حدود، يوجد التهريب، تلك الآلية التي تعد معقدةً إلى حد ما، وعلى الرغم من أنها طريقة خطرة، صعبة وغير أخلاقية للغاية للحصول على الموارد، إلا أنها قد تكون ضرورية في بعض الأوقات والأماكن، حتى يستطع الإنسان العيش في الزمن الصعب.
التهريب بين الحدود، أو العابر للحدود؛ وما يصاحبه من مخاطر وصعوبات، لم يثني مريم عن خوض غماره، ولا ردها عن النشاط فيه. فحسب ما ترويه بنفسها، فهي تعتبر من أبرز العاملين في التهريب على الخط الشمالي الرابط بين البلاد التونسية وجارتها الجزائر.
تتنقل مريم أسبوعيا حوالي ثلاثة أو أربع مرات بين الجهتين، رحلاتها ليلية بالأساس، تقطع خلال الواحدة منها نحو الـ500 كيلومترا ولا تتجاوز في مجمل مدتها نصف اليوم.
خارج القانون
تبلغ مريم من العمر 37 عاما، وتمارس مهنة التهريب منذ قرابة 8 سنوات، وتعتبر أن “الكسب الذي تحققه من تجارة التهريب هو ما شجعها على الاستمرار في ممارسة هذه المهنة الخارجة على القانون وغير المصنفة ضمن مهام أو مهن للنساء”.
تبتسم مريم، وتتبعُ ابتسامتها ضحكة تعمدت أن تكون عالية، قبل أن تسرد قصتها، “في البداية، كان يتملكني الخوف من الأمن ومن الطريق، لكن اليوم أصبحت مغامرة الرحلة مصدرا استمد منه استمراريتي، فهو مصدر رزق أعيل منه عائلتي”.
وتشير مريم إلى أنه مع مروق الوقت، تحول التهريب في حياتها إلى “بطاقة عبور لكسب الرضا الاجتماعي”، مضيفةً أنها من خلال عملها “أثبت من نفسي وأنني لا أقل قيمة عن الرجال، وقادرة على دخول عالمهم الخطير وغير الآمن وأيضا غير القانوني”.
وتروي مريم لـ”هن” عن دوافع دخولها لعوالم التهريب قائلةً “انفصلت على زوجي في سن صغيرة، وعدت إلى منزل عائلتي في سن الـ26، مع طفلين كان حملهمَا ثقيلًا في غياب والدهم الذي تنصل من كل مسؤولياته”.
وتكشف مريم أنها في البداية لم تكن تتوقع أن “تجارة البين وتهريب السجائر والمحروقات ستتحول إلى مهنة أساسية بالنسبة لي، نجحت من خلالها في تحقيق التحول الجذري في حياتي اجتماعيا وماديا على حد السواء”.
صراع من أجل لقمة العيش
“نعم أنا اليوم مهربة محترفة.. أحفظ عن ظهر قلب مسارات التنقل بين الحدين، أجيد التخفي والابتعاد عن وحدات الحرس الحدودي على الجانبين… وبستر من الله اوفّق في العديد من المرات في ما يفشل فيه الرجال”، تضيف مريم بفخر وزهو.
وعن المشاكل والاشكاليات التي تعترضها كامراة في رحلاتها الليلة الخطرة، توضح مريم أن دخول المرأة إلى عالم التهريب يكون عبر حفظها لقواعده، وأولها “الندية”، فـ”أنتِ مثلهم ستعبرين طريقًا جبليةً جانبية، مع مرافق عليكِ أن تقومي باختياره جيدًا”.
“مدة الرحلة مهمة للغاية وكلما كان وقتها اقل زادت فرص نجاحك فيها، وذلك الجانب يحتكم إلى عقد واتفاق عليك احترامه، فعلى الطريق الجميع في حماية الجميع”، تشرح المهربة مريم.
وبينما تتباهى مريم بنجاحاتها وانتصاراتها في مجال التهريب، تعترف أيضا بأنها وقعت في قبضة الحرس الحدودي أكثر من مرة، وحررت في حقها محاضر، وخسرت في بعض الأحيان، لكنها كلما سقطت أعادت الوقوف وتكثيف العمل؛ من أجل تعويض خسارتها في كل مرة.
مريم، ليست المراة الوحيدة التي تعمل بمجال التهرب في تونس، فهناك عدد من النساء اللاتي اخترن المغامرة بوجهيها؛ الدخل المحترم والخطر الداهم.
مهنة ذكورية
ومع غياب أرقامٍ تحصي عدد النساء العاملات في مجال التهريب، إلا أن السلطات تعتبره “مهنة ذكورية بالأساس”، تحضر فيها النساء “للتمويه أو كمرافقات”.
هذا، وتحولت تجارة التهريب في تونس بسبب ضيق سوق الشغل ومحدودية فرص العمل؛ إلى مجال نشاط أساسي لنسبة عالية من الشباب العاطل عن العمل، ليس على مستوى المدن الحدودية فحسب، بل في غيرها من المناطق، فهي تمثل مصدرا للربح السهل والسريع.
وتتساهل الدولة مع من يمتهنها، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة كـ(تجار الشنطة وأصحاب محلات بيع المواد المهربة).
مجال التهريب، حسب دراسة أعدتها منظمة “فريدريش إيبرت”- مكتب تونس، حول الإصلاحات الاقتصادية، يجذب “حوالي 41.5 بالمئة من السكان النشطين، ويشغل حوالي مليونٍ و600 عاملٍ غالبيتهم من الذكور”، ويمثل التبغ والمحروقات والنسيج والمواد الكهرومنزلية أهم السلع التي تشملها هذه التجارة غير القانونية.
وحسب نفس الدراسة، تتسبب تجارة التبغ في خسارة ميزانية الدولة لقرابة “500 مليون دينار سنويا”، أما تجارة المحروقات فـ”تغطي 25 بالمئة من اجمالي احتياجات البلاد التونسية”.