من موريتانيا، حيث يتراءى لك شظايا الماضي في عيون الناس وعاداتهم الراسخة، هربت مريم، فمع كل خطوة كانت تخطوها في بلاد المرابطين كانت تشعر وكأنها تحمل عبئاً ثقيلًا فوق قلبها؛ في عالم يتربص فيه الخوف من الآخر، لاسيما وأن مريم امرأة محاصرة بين هويتها الجندرية الحقيقية والمجتمع الذي يرفضها؛ فهي هي واحدة من الكثيرات اللاتي يعيشن في الظل، بعيدًا عن الضوء الذي يرفض الاعتراف بوجودهن.
طفولة بين قيود مفروضة
مريم لم تكن طفلة عادية، فمنذ صغرها، كان جسدها يحمل علامة فارقة، علامة لم يفهمها أحد سواها، وعن ذلك تقول مريم لمنصة “هنَّ”: “كنت أعرف منذ طفولتي أنني لست في الجسد الصحيح، لكن لا أحد كان يسمعني”، إذ كانت عائلتها تصر على أنها “ذكر”، وظلت تذكّرها بذلك في كل لحظة. “كنت مُجبرة على التظاهر بأنني ما لست عليه، حتى أنني كنت أخفي نفسي عن الفتيات وأتجنب اللعب معهن، خوفًا من أن تكتشف هويتي الحقيقية”، تضيف مريم بصوتٍ مكسور.
ولكن مريم لم تتوقف عن البحث عن نفسها، فرغم الضغوط العائلية والتقاليد الاجتماعية، كان هناك دائمًا شيء بداخلها يرفض أن يُدفن، “حاولت التكيف، لكنني لم أستطع… كنت أعيش في حالة من حرب داخلية، في صراع دائم مع نفسي”.
عواصف مجتمعية: “رفاق في نفس المعركة”
مع مرور السنين، أصبح الرفض المجتمعي سيفًا مسلطًا على رأس مريم. وهكذا ظلت كطائر مكسور الجناح، تهرب من الأحكام المسبقة والتشكيك الذي يلاحقها أينما ذهبت، “كنت أعيش في عزلة كاملة. الناس كانوا يتنمرون عليّ، ولا أحد يفهمني سوى بعض الأصدقاء الذين يعانون من نفس المعاناة، وكانت ابنة خالتي تدعمني في محنتي”.
ولكن هذا الدعم كان شحيحًا، والمجتمع يزداد تطرفًا في أحكامه، “عشت سنوات من الخوف من الملاحقة، كنت أهرب من عيون الناس، وأتجنب التجمعات خوفًا من أن يكشفوا هويتي الحقيقية. الحياة في موريتانيا كانت جحيمًا”، توضح مريم لهذه المنصة.
في ظل اللاحقوق
الحياة في موريتانيا ليست سهلة بالنسبة للمتحولين جنسيًا، “لا حقوق للمتحولين جنسيا ولا لأي مختلف عن السائد في موريتانيا”، تقول الناشطة الحقوقية مكفولة إبراهيم.
“لا يوجد قانون يحمي المتحولين جنسيًا من سوء المعاملة أو الاضطهاد، بل على العكس، هم في خطر دائم من السجن بسبب تهم غير واضحة مثل ‘خدش الحياء العام’. وأحيانًا تقتحم الشرطة منازلهم، وتتعامل معهم بعنف”، تضيف الناشطة في تصريح لمنصة “هنَّ”.
المنظمات الحقوقية التي قد تقدم الدعم ليست أكثر حظًا، حيث يواجه المتحولون صعوبة في الحصول على الاعتراف الكامل بهويتهم، “هناك منظمات تحاول مساعدتهم في مجال الحصول على حقوقهم وهو أمر صعب، وهناك منظمات دولية تدعم هؤلاء عن طريق تقديم الدعم والمساعدة للحصول على عمل ويقدمون لهم مساعدات صحية، وفي أحيان كثيرة يتم التخلي عن بعضهم من قبل عائلته وبالتالي يصبح عرضة للتشرد والعنف وانتقال الأمراض”.
الهروب: بحثًا عن حياة أفضل
في موريتانيا العادات والقوانين صارمة بشأن المثلية والهوية الجندرية، ما يجعل حياة هؤلاء أشبه بمغامرة مخاطرها قد تصل للقتل، هنا تعتبر الميول الجنسية غير التقليدية والهوية الجنسية أمرًا مرفوضا اجتماعيا وقد يتعرض أفرادها للملاحقة القانونية وهو ما حدث مرات عديدة،
“جعلتني العادات والتقاليد الصارمة أقطع علاقاتي بأغلب أصدقائي ومعارفي خوفا من أي ردة فعل سيء، وتأثرت علاقاتي العاطفية بشكل كبير”، تقول مريم.
وظلت حياة مريم مليئة بالتحديات، ولكن لحظة بعينها كانت حاسمة عندما قررت الهروب، “لم يكن أمامي خيار آخر، إما أن أواجه الموت البطيء في بلدي، أو أبحث عن مكان يمكنني فيه أن أعيش نفسي على سجيتها”، كانت رحلة محفوفة بالمخاطر، عبرت فيها الحدود إلى أحد البلدان المجاورة في شمال إفريقيا، ظانةً أنها قد تجد الأمان هناك.
ولكن في هذا البلد الجديد، لم تكن الأمور أسهل، “الواقع كان مختلفًا قليلاً، لكن التحدي كان نفسه. كان الحصول على عمل أمرًا مستحيلاً بسبب التناقض بين هويتي الحالية وما هو مكتوب في جواز السفر”، توضح مريم، التي تتنقل الآن بورقة طلب اللجوء من إحدى منظمات حقوق الإنسان، وهي على أمل أن تجد مكانًا يعترف بها وبحقوقها.
الانتظار… حلم بعيد
تقدمت مريم بطلب لجوء منذ خمس سنوات، وما زالت تنتظر، “لقد خسرت كل شيء في سبيل أن أعيش بحقيقتي… لكنني لست نادمة على أي شيء”، تؤكد مريم بصوت مملوء بالعزيمة، مضيفةً أنها تعلم “أن الطريق طويل، لكنني لن أستسلم”.
وعلى الرغم من جميع الصعوبات التي واجهتها، تتمسك مريم بالأمل، “رسالتي للعالم هي أن المتحولين جنسيًا ليسوا مرضى، وأن لكل شخص الحق في أن يعيش بهويته الحقيقية. وأتمنى أن يُمنح جميع الأشخاص في بلدي الحقوق التي يستحقونها، وألا يستسلموا لعادات وتقاليد لا تقبلهم على حقيقتهم”.
مريم هي مجرد مثال واحد من آلاف القصص المماثلة. قصص أشخاص يكافحون من أجل هوية لا يوافق عليها المجتمع، أشخاص يناضلون في صمت، ويعيشون في ظل القوانين التي ترفض وجودهم. في موريتانيا، يتعرض المتحولون جنسيًا لمختلف أشكال القمع الاجتماعي والقانوني، ولكن مع ذلك، يظل الأمل في التغيير موجودًا. قصتها قد تكون مآساة، ولكنها أيضًا شهادة على قوة الإرادة والصمود، على نضال مستمر من أجل الحرية والقبول. فمريم اليوم لا تمثل نفسها فقط، بل تمثل آلاف الذين يختبئون خلف جدران الصمت والخوف.