تجتمع النسوة حول فاطمة، كدأبهن زوال كل سبت بمسجد الحي بمدينة عين العودة، 27 كلم جنوب الرباط، ليسمعن منها اليوم تفاصيل تغسيل الأموات وتكفينهم.
تجلس متوسطة الحلقة، وتبدأ في الشرح للنسوة اللاتي يحطن بها، تسرد فاطمة مراحل تغسيل الميت كأنها تجري أمام أعينهن، تنزع خمارها الأسود الطويل، وتجعله بديلًا للكفن الأبيض، من أجل تجسيد عملية التكفين.
“كتومة وأمينة وحنونة” هي الصفات الثلاث التي تشترطها فاطمة في المرأة المغسلة التي “لا ينبغي لها أن تتخذ من هذا العمل مهنة للمتاجرة فيها وكسب المال الحرام عن طريق سلك طرق السحر والشعوذة بدل السعي لنيل الأجر والثواب”.
“ماما فيك ريحة الموتى”
تخبرنا فاطمة، وهي امرأة في الخمسينيات من عمرها، أنها تحاول في كل فرصة سانحة حث النساء على تعلم كيفية تغسيل أمواتهم، على اعتبار أنهن الأولى بهذه المهمة، التي تعتبرها حساسة، وتستوجب الحيطة والحذر من المشعوذين والمشعوذات، الذين يستغلون طمع بعض المغسلات أو جهل أهل الميت للعبث بأدوات تغسيله.
تسرد فاطمة لمنصة “هنَّ” بداياتها مع “التغسيل” انطلاقا من المسجد، الذي حضرت فيه لدرس ديني كانت تشرح فيه المرشدة كيفية تغسيل الميت.
آنذاك، اقترحت عليها المرشدة، التي كانت مغسلة أموات أيضا، الانضمام إليها والبدء في التغسيل، “لقد وجدت الأخت حادة في شخصيتي صفات رأتها تؤهلني لتولي هذه المهمة”.
“سواء أكانت مجاملة منها أو تشجيعا فقد كانت تصر دائما ضرورة الالتحاق بها قائلة: بغيتك أفاطمة تغسّلي معايا”، تضيف محدثتنا بتواضع.
الرهبة والخوف الذي كان يمنع فاطمة من التغسيل، كسره موت ابنة أخيها التي كانت تربطها بها علاقة قوية؛ فقبل عشر سنوات تقريبا، بحسب ما تتذكر فاطمة، توفيت قريبتها التي كان عمرها لا يتجاوز 23 سنة في حدث صدم الجميع، دفع فاطمة للتحلي بالشجاعة وتغسيل ابنة أخيها، “كنت أغسلها وأدعو لها وبداخلي أمل أن تسيقظ وتعود للحياة” توضح فاطمة.
“ومنذ ذلك الحين، بدأت أرافق الأخت حادة أو أذهب بنفسي رفقة أخوات أخريات لتغسيل الموتى بغية الأجر والثواب”، وترفض فاطمة اعتبار تغسيل الأموات مهنة لكسب الرزق، معتبرة أن الأجرة التي يتلقاها المغسل من أهل الميت “تنقص من أجره وثوابه وتسقطه في فخ المقارنات والماديات”.
تستدرك فاطمة قائلة، “لا وجود لمانع شرعي لمن أرادت أن تأخذ أجرتها، شريطة أن لا تشترط مبلغا معينا، فعموما يتراوح الأجر بين 100 إلى 400 مئة درهم.. لكنني والأخوات لا نشترط سوى ثمن المواصلات وإن تكرم أهل الميت بتوصيلنا يكون أفضل”.
الحنان الذي اشترطت فاطمة توفره في المغسِّلة نراه جليا في صوتها الدافئ، وتعابير وجهها الهادئة، فالحالات الكثيرة التي صادفتها لم تزد شخصيتها إلا تهذيبا وثباتا، وهو ما تقول عنه بلسانها “التغسيل يعلمك الصبر والثبات.. نصادف نماذج لموتى في حالات حرجة صادمة عليك التعامل معها، والأهم من ذلك سترها، فالميت يحس طبعا… ولذلك نحرص على الرفق والعناية بهم”.
تصوب فاطمة خمارها استعدادا للرحيل، لتفوح منه رائحة الكافور فتقول باسمة، “جل ملابسي يعطرها الكافور الذي أستخدمه في تعطير الموتى… وكلما عدت للبيت يحتضنني أبنائي ويقولون لي: ماما فيك ريحة الموتى”.
“أغسل الميتة فأغسل معها قلبي”
لم تكن حنان التي تخاف الموتى، ولا تقوى على الاقتراب حتى من أماكنهم تتوقع أن تصبح يوما مغسلة أموات، غير أن حياتها تغيرت بعد أن حضرت لتفاصيل التغسيل التي أثرت فيها كثيرا وحرمتها ليلتها من النوم، لتقرر بعد ذلك الالتزام بارتداء النقاب، “بكيت ليلتها كثيرا ولم تفارقني مشاهد تغسيل الميتة وتساءلتُ: هل يُغطى وجه المرأة الميتة وهي لم تكن تغطيه وهي حية ترزق”.
تضيف حنان في حديثها لـ”هن” عن تجربتها في التغسيل، “أدخل في كل مرة محمّلة بهمومي وذنوبي فأغسل الميتة وأغسل معها قلبي من ملذات الدنيا الزائلة… وفي كل مرة تجرني الحياة بملهياتها يرجعني التغسيل لحقيقتنا؛ لأتذكر أن هذه هي نهاياتنا جميعا وإن اختلفت حياة كل واحد منا”.
وتردف حنان قائلةً، أن التغسيل “علمني القناعة، فبعد أن كنت مهووسة بتفصيل الجلاليب والقفاطين أدركت أن حقيقة هذه الدنيا الزائلة التي نرتدي في نهايتها الثوب نفسه، سواء كنا أغنياء أو فقراء”.
لم تعد حنان تخاف الموت، فـ”الأجدر أن نخاف من الأحياء وليس الأموات” تقول حنان، ذلك أن القصص والتجارب التي عايشتها خلال السنوات الخمس الماضية علمتها أن أقرباء الميت أنفسهم “قد يريدون به سوءا وقد يستغلونه لأغراض السحر والشعوذة”.
“على المغسلة أن تكون متيقظة وفطنة ولا تسمح لأي أحد بالعبث في أغراض الميت.. أذكر أن امرأة ادعت أنها تود السلام على الميتة فدخلت الغرفة بجواربها فقط دون أن ترتدي الحذاء كي تطأ المياه التي غسّلت بها الميتة لتستعمل هذه المياه في أعمال السحر”، توضح حنان.
عمل بغرض الأجر والثواب
فاطمة وحنان وغيرهن من النساء اللواتي يضعن أرقام هواتفهن في خدمة كل من يتصل بهن من أجل تغسيل موتاهم، لا يبتغون من هذا “سوى الأجر والثواب”، ومبالغ تتفاوت قيمتها بحسب كرم أهل الميت واستطاعتهم المادية.
وتؤكد لنا فاطمة أن المغسلات قد يدفعن ثمن مستلزمات التغسيل من ثوب وأعشاب عطرية لمن لا يملك ثمنها وقد يشتري بعض المحسنين هذه الأدوات ويضعونها رهن إشارة المغسلات اللواتي يستعملنها لتغسيل من لا يملكون ثمنها، وتضيف فاطمة، “شي كيخلص على شي ابنتي”.